مقدّمة
الليتورجيّا هي الكنـز الحيّ للكنيسة المارونيّة، وهي في سفرٍ نحو ملكوت الآب؛ منها تغتني وتغني اختباراتها الروحيّة والإنسانيّة. تحتل الليتورجيا موقعًا محوريًّا في مسيرة الكنيسة، فتشكِّل واحدة من أهم ثوابتها المكوّنة لها إنطلاقًا من الحدث الفصحيّ: موت الربّ على الصليب وقيامته من بين الأموات؛ إنّها الينبوع الذي منه تغرف روحانيّتها فتتمنطق بالقداسة وهي الغاية التي إليها تصبو كلّ الأعمال الكنسيّة التي تتناول الحياة المتعلّقة بالأسرار والجهود الرسولية عبر حضورها في العالم.
شكّلت الليتورجيا الموضوع الرئيس الذي عالجته مجمل المجامع المسكونيّة، والملف الأوّل في المجمع الفاتيكانيّ الثاني، الذي أصدره في دستور خاصّ في أولى جلساته، مشيرًا بذلك إلى أهميّة الليتورجيا في حياة الكنيسة. نالت الطقوس بدورها، إهتمامًا أساسيًّا في مجامع الكنيسة المارونيّة المحليّة، منذ القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، مـا جعلها تتجاوب بسهولة مع تعاليم المجمع الفاتيكانيّ ونداءات البابوات المتكرّرة، وآخرها الإرشاد الرسوليّ “رجاء جديد للبنان”، فتجدّد طقوسها، بنيةً ونصوصًا، ملبّيةً شعار “دستور في الليتورجيا” بالعودة إلى الينابيع والأصول[1]. وتشكِّل المسيرة المجمعيّة، في هذا السياق، مناسبة مميّزة لهذا التجديد.
ينبع الاختبار الليتورجيّ في الكنيسة من الثالوث الأقدس وإليه يعود؛ فالليتورجيا هي تعبير عن اختبار الكنيسة المصلّي مع الثالوث ونحوه: فيها ترفع الجماعة المفتداة الشكر والتمجيد لله الآب الخالق والمخلّص. وشكرها هو إفخارستيا تقدم مع الابن الوحيد الذي بارك أيّ شكر الآب من أجل الخلاص الذي تحقّق فيه لحياة العالم. تتمّ ليتورجيا الكنيسة بالروح القدس الذي حلّ فيها يوم العنصرة وهو يحلّ فيها في الاحتفال الليتورجيّ ويكمّل ويختم ويحقّق في داخلها وفي العالم ثمار الخلاص. فالروح هو الذي يوجّه كنيسة المسيح ويقودها ويجدّدها ويجعلها عنصرة متواصلة؛ إنّه يصلّي فيها بأنّات لا توصف. فالليتورجيا هي عمل الثالوث الأقدس والاحتفال به، تنبع منه وتعود إليه؛ وفي هذه الديناميّة الثالوثيّة تتّحد الكنيسة بسرّ المسيح الفصحيّ، سرّ موته ونزوله إلى الجحيم وقيامته، فيصبح الاحتفال الليتورجيّ عيش الفصح المتجدّد والإعلان المتواصل لحدث القيامة[2].
تحتلّ الليتورجيا المكانة المركزيّة الأولى في الكنيسة والمحور الأساس؛ فهي من إحدى الثوابت المكوّنة لها. إنّها التعبير الصافي لاختبار الكنيسة الروحيّ والمصلّي. لذا، تبلغ الليتورجيا أوجها في فعل العبادة العظيم، فتؤدّي الكنيسة المحتفلة المجد للثالوث المحيي.
ومن هنا، تصبح الليتورجيا المربّية الحقيقيّة للحياة المسيحيّة والخلاصة الأكمل لمظاهرها المتنوّعة؛ فهي في الواقع، ذروة حياة الكنيسة وينبوعها[3]. إنّها اشتراك بسرّ المسيح وكنيسته، تؤوّنه وتدعو المؤمنين إلى التأمّل فيه وعيشه رافعة الشكر للربّ، من أجل محبّته اللامتناهية.
يكوّن الاختبار الليتورجيّ بعامّةٍ والإفخارستيّ بنوعٍ خاصّ، المكان اللاهوتيّ – الإنسانيّ الأوّل لإعلان حدث موت الربّ وقيامته السعيدة. فيه تشترك الكنيسة فعليًّا وبطريقة آنيّة بالسرّ الفصحيّ؛ فيه تتجدّد ومنه تنبع كلّ الحياة الطقسيّة والأسراريّة. ومن شخص المسيح تأخذ الليتورجيا بعدها الإسكاتولوجيّ بكونه الألف والياء، البداية والنهاية والملك المنتظر الذي سوف يأتي بالمجد ليدين الأحياء والأموات.
تلخّص الليتورجيا المارونيّة، الإختبار المارونيّ وتجسّده في معظم أبعاده وجوانبه. فاللاهوت والروحانيّة والكتاب المقدّس والرسالة التبشيريّة، تتجلّى كلّها في الليتورجيا.
وإنتماء الكنيسة المارونيّة إلى المدرسة الأنطاكيّة السريانيّة، يجعلها جزءًا من هذه المدرسة، فكلّ ما لديها من إرث آبائيّ وليتورجيّ ولاهوتيّ وروحانيّ وكنسيّ ينبع من هذه الثقافة العريقة: واللاهوت المارونيّ، بشكلٍ عامّ، يظهر في مفاصله الكبيرة والأساسيّة في الكتب الطقسيّة. فالصلوات النثريّة والشعريّة والحسّايات والألحان في القدّاس والأسرار وسائر الرتب الطقسيّة تزخر بميزات لاهوتيّة وكتابيّة تعكس روحانيّة خاصّة بهذه الكنيسة. وإنّ الشعار، الذي أطلقه مار أوغسطينوس “شريعة الصلاة هي شريعة الإيمان”، ليجد له صدًى واضحًا في الليتورجيا المارونيّة؛ فإيمانها يتجلّى صريحًا في اختبارها العريق والعميق لصلاتها عبر العصور، هـذا الاختبار يعكس جليًّا عقيدتها اللاهوتيّة ويعبّر، بحقّ، عن أنّ الليتورجيا هي مدرسة إيمان.
الفصل الأوّل : الليتورجيا المارونيّة
أوّلاً: أساسها وطبيعتها
الليتورجيا المارونيّة أنطاكيّة في نشأتها، تفاعلت مع الكنائس السريانيّة الشرقيّة والغربيّة، وتطوّرت في هيكليّاتها وأشكالها الأخيرة في جبل لبنان. والطقس المارونيّ ينتسب إلى العائلة الأنطاكيّة الغربيّة، ما يعني ثلاثة أمور:
أ. الطقس المارونيّ واحد من عائلة التقليد السريانيّ الأنطاكيّ، الذي يجسّد إلى حدٍّ بعيد تقليد أورشليم “أمّ الكنائس”، ويؤلّف معهما أيّ الأورشليميّ والأنطاكيّ، وحدة ليتورجيّة متكاملة.
ب. ينفتح الطقس المارونيّ الأنطاكيّ على الطقس السريانيّ الشرقيّ، أيّ الكلدانيّ – الأشوريّ، ما يجعلنا نجدُ فيهما نقاطًا كثيرة مشتركة، أبرز مصادرها كتابات مار أفرام ومار يعقوب السروجيّ التي كان لها الأثر الكبير في تكوين الليتورجيا المارونيّة.
ج. حافظ الطقس المارونيّ، على الرغم من تأثّره اللاحق والهامشيّ بالطقس اللاتينيّ، على شخصيّة ليتورجيّة فريدة. فنصوصه الليتورجيّة، تحمل لاهوتًا أنطاكيًّا وسريانيًّا عريقًا، كما أنّ هيكليّات صلواته ورتبه هي، ذات طابع أنطاكيّ – أورشليميّ لا يقبل الجدل.
فهويّة الليتورجيا المارونيّة إذًا، هي أنطاكيّة سريانيّة. وعلى الرغم من النقاط المشتركة مع السريان والكلدان والأقباط، فالطقس المارونيّ يتمتّع بشخصيّته المميّزة وله عناصره والمقوّمات الخاصّة به، وهذا ما حفظه من الاندثار والذوبان في أيّ من الطقوس الأخرى.
وهناك دراسات متعدّدة تُظهر التفاعل العضويّ بين الطقوس الآتية: المارونيّ والسريانيّ والكلدانيّ؛ ولقد توصّلت الأبحاث الحديثة إلى تبيان أنّ لليتورجيّات السُريانيّة الثلاث أصل مشترك وهو ليتورجيا مدينة الرها. عرفت هذه الليتورجيّات تطوّرًا في أطر كنائسها التي تنتمي إلى الحضارة الأنطاكيّة – السُريانيّة[4].
إستنادًا إلى هذه الأبحاث نرى أنّ الليتورجيا المارونيّة، ذات العمق الأنطاكيّ، ما زالت تحمل آثارًا رهاويّة تتميّز ببنية خاصّة ونسق معروف يشهد له نافور “شَرَر”، ورتب تقديس الميرون وتقديس الماء وبعض الأناشيد الطقسيّة المنسوبة إلى مار أفرام السريانيّ ومار يعقوب السروجيّ وغيرهم من الآباء السريان[5].
ثانيًا: تطوّرها
الحقبات التاريخيّة الأساسيّة التي مرّت بها الليتورجيا المارونيّة، هي الآتية[6]:
المرحلة الأولى تمتدّ من نشأة الموارنة إلى أواخر القرن السابع مرورًا بالمجامع المسكونيّة الستّة الأولى، وما تبعها من انقسامات داخل الكرسيّ الأنطاكيّ، لاسيّما الانفصال بين سريان غربيّين وشرقيّين، وانفصال آخر بين سريان غربيّين وملكيّين، وثالث بين الخلقيدونيّين أنفسهم. لم تؤثّر هذه الإنقسامات العقائديّة والاجتماعيّة والسياسيّة في الليتورجيا، بل حافظت على وحدتها داخل الجماعة الكنسيّة الواحدة. ولقد تميّز الموارنة بقربهم من أنطاكية ومن الرها، ومن تراثهما الروحيّ واللاهوتيّ. ومع تكوين البطريركيّة المارونيّة بدأ الاستقلال الطقسيّ المارونيّ.
المرحلة التي تمتدّ من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر، تميّزت بالطابع الأنطاكيّ السريانيّ ذي العناصر المشتركة ما بين الليتورجيّات السريانيّة والملكيّة، والتي تؤكّدها مقارنة مخطوطات تلك الحقبة (لندن – متحف بريطانيّ 17129) أو بعض السدرات والأناشيد. تقتضي هذه الحقبة التاريخيّة دراسات نقديّة وتحليليّة ترتكز على منهجيّة “الدراسة المقارنة”، لأنّها تشكّل حقبة المصادر، وتجدر الإشارة هنا إلى ظهور مجموعة “البيت غازو” للمخطوطات الليتورجيّة المارونيّة التي تلقي الضوء على أبعاد من الهويّة الليتورجيّة المارونيّة إلى جانب عناصر لاهوتيّة ثابتة تستخرج من هذه المجموعات الثمينة.
مرحلة ما بعد القرن الثاني عشر، بَدت ذات طابع أنطاكيّ وسريانيّ مع علامات تأثير رومانيّة، وذلك من جرّاء العلاقات المباشرة بين الموارنة وكرسيّ روما. ظهر التقارب على مستوى الملابس الحبريّة والفنون الكنسيّة والآنية، وبعض طرق الاحتفال بالرتب والأسرار كتقديس الميرون ومنح سرّ التثبيت، وأمّا النصوص والهيكليّات فحافظت بشكل عامّ على طبيعتها. ومع التطوّر التاريخيّ، ما بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، بدأت تقوى التأثيرات الخارجيّة في الطقس المارونيّ. فبرزت آثار غير خلقيدونيّة من خلال نشر مخطوطات طقسيّة بين الموارنة في شمال لبنان، وتدخّلات رومانيّة لاهوتيّة، وكان من أهمّ روّادها المطران جبرائيل ابن القلاعيّ الراهب الفرنسيسكانيّ.
مرحلة مدرسة روما المارونيّة، شهدت طباعة الكتب الطقسيّة. وإثر زيارة الأب إليانو سنة 1578 للموارنة، تمّ اقتراح لإعادة تنشئة الطلاّب، فكانت مدرسة روما. ثمّ، تمّت طباعة الكتب الطقسيّة وتشذيبها، مثل طباعة الجنّازات سنة 1585، والقدّاس 1594، وخدمة القدّاس 1596، والشحيمة 1624، والمتعيّدات والفنقيط الشتويّ 1656، والفنقيط الصيفيّ 1666. وكانت تنشر هذه الكتب بتصدير من المراجع الرومانيّة، مثبّتة مطابقتها لكلّ مبادئ العقيدة الكاثوليكيّة. في هذه المرحلة، بدأت تقوى العادات الغربيّة داخل العبادات التقويّة والشعبيّة. أسهم تلامذة المدرسة المارونيّة في روما في إدخال بعض هذه العادات، التي زادت وتأصّلت مع وصول الإرساليّات إلى الشرق. وفي هذه الحقبة، بدأ الموارنة يصلّون في قدّاسهم نافور “الكنيسة الرومانيّة”، ويستعملون بعض الصيغ الخاصّة بتوزيع الأسرار والمأخوذة عن الصيغ اللاتينية.
مرحلة البطريرك إسطفان الدويهيّ (1670-1704): تعتبر هذه المرحلة مفصليّة في تاريخ الليتورجيّا المارونيّة، بفضل هذا البطريرك المؤرّخ واللاهوتيّ والمفكّر والمصلح الكنسيّ والليتورجيّ. لقد أفنى البطريرك الدويهي حياته في إصلاح الكتب الطقسيّة وتنقيتها من العناصر اللاتينيّة وغير الخلقيدونيّة. ساعدته سعة ثقافته الكنسيّة على إجراء مقارنة عميقة ودقيقة بين الطقس المارونيّ وسائر الطقوس الشرقيّة والغربيّة. وكان يبرّر كلّ عمل إصلاحيّ بشروح لاهوتيّة يظهر من خلالها ما هو مشترك بين الكنائس وما هو التفرُّد المارونيّ.
المرحلة الممتدّة من المجمع اللبنانيّ (1736) إلى المجمع الفاتيكانيّ الثاني (1965): شكّلت الحقبة التاريخيّة ما قبل الأخيرة في تاريخ الطقس المارونيّ، وتميّزت بالإصلاحات المتواصلة وبطبع الكتب. لا بدّ من التنويه بما نشأ من إصلاح طقسيّ مهمّ عقب المجمع اللبنانيّ (1736)؛ كما عرفت هذه الحقبة رعاية المشاريع الإصلاحيّة من قبل لجان متخصّصة، يشرف عليها أصحاب الغبطة البطاركة. ولا بدّ من التنويه بدور عائلة السمعانيّ في القرن الثامن عشر، ونسخهم للمخطوطات وجمعها في مجموعات كبيرة في اللغات السريانيّة والعربيّة واللاتينيّة، وكذلك بدور أبرشيّة حلب ومدرستها والتجديد الطقسيّ الذي قامت به. وبدل أن ينقص العنصر اللاتينيّ في الطقس المارونيّ، على أثر إصلاحات الدويهيّ، لاحظنا أنّه تزايد، لاسيّما في كتب الأسرار والرتب، وبنوع خاصّ في الزيّاحات الشعبية؛ وعلى الرغم من كلّ أنواع الإدخالات اللاتينيّة، حافظت الليتورجيّا على روحانيّتها المارونيّة.
من المجمع الفاتيكانيّ الثاني إلى اليوم: تابعت الكنيسة المارونيّة المشاريع الإصلاحيّة لطقوسها عبر اللجنة البطريركيّة، التي تعمل استنادًا إلى القواعد الثابتة في “دستور في الليتورجيّا المقدّسة”، وانطلاقًا من التقليد الخاصّ، مع الأخذ بعين الاعتبار الواقع الرعويّ للكنيسة في النطاق البطريركيّ وفي عالم الانتشار. ولا بدّ من أن نشير إلى الدور الذي تؤدّيه اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة[7]، ويمثّله معهد الليتورجيا في جامعة الروح القدس – الكسليك[8]، وهو الفريد في الشرق الأوسط، في مجال الأبحاث الليتورجيّة المشرقيّة، والتنشئة الطقسيّة للكهنة والعلمانيّين؛ ونشير بحقٍّ وقدر إلى العمل الإصلاحيّ الليتورجيّ الذي قامت به الأبرشيّة المارونيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وتابعته باهتمامٍ كبير ولفترة طويلة الرابطة الكهنوتيّة في لبنان، إلى جانب أساقفة وكهنة أفاضل كثيرين[9].
لا يسعنا هنا إلاّ أن ننوّه بالدور الرائد الذي أدّته الرابطة الكهنوتيّة في لبنان في مجال التثقيف الليتورجيّ من خلال ندوات ومحاضرات تتناول الكهنة وبعض الشرائح الرعويّة إلى جانب وسائل تثقيف أخرى كالمنشورات على أنواعها، إضافة إلى التنشئة المستديمة، نشرت الرابطة بعض الرتب الليتورجيّة في حالتها المصلحة والتي من خلالها كانت تهيئ وتواكب الإصدارات الليتورجيّة الرسميّة.
إذًا، هيّأت الحقبة الأخيرة من الحياة الليتورجيّة في الكنيسة المارونيّة النفوس لقبول الرتب المصلحة من خلال مناخ إيجابيّ من التثقيف الليتورجيّ، يشكّل ركيزة جوهريّة لقبول النصوص الطقسيّة والاحتفال بها بفعاليّة روحيّة مميّزة.
نستنتج من الحقبات التاريخيّة ما يأتي:
أ. إنتماء الليتورجيا المارونيّة إلى الكنيسة الأنطاكيّة وارتباطها العضويّ في الثقافة السريانيّة في قسميها الغربيّ والشرقيّ في آنٍ، جعلها تستقي مصادرها من ليتورجيّات أساسيّة هي أنطاكية وأورشليم والرها.
ب. العناصر الليتورجيّة المشتركة بين الطقس المارونيّ والطقوس السريانيّة والملكيّة والكلدانيّة، والتي تثبّتها “الليتورجيا المقارنة” وبعض مخطوطات القرنين السابع والثامن، تشكّل ثابتة تاريخيّة من شأنها أن توجّه العمل الإصلاحيّ نحو إبراز ما هو مشترك، وتطوّره وتجعله أساسًا في مشاريع الإصلاح الطقسيّة، حتى يُسْهِم في توطيد روابط المحبّة والوحدة بين هذه الكنائس ذات الأصل المشترك. فالعمل المسكونيّ ينمو ويقوى إنطلاقًا من اختبار الكنيسة المصلّي.
ج. يؤكّد تاريخ الليتورجيا المارونيّة تفاعلها المتبادل مع سائر الكنائس؛ وما أُخذ عن الطقس الرومانيّ بقي محدودًا بعض الشيء في مجال الفنون الكنسيّة والثياب البيعيّة وبعض أشكال الممارسة الليتورجيّة والأعمال الطقسيّة والصِيغ التي تتعلّق بمفهوم لاهوتيّ محدّد. أمّا هيكليّات الرتب ونصوصها الأساسيّة فحافظت على الطابعَ المارونيّ – السريانيّ. وأمّا التأثير السريانيّ غير الخلقيدونيّ فقد تناول بعض النصوص، ولاسيّما في مرحلة الانتقال من حقبة المخطوطات إلى حقبة الكتب المطبوعة في بعض قرى جبل لبنان.
د. تُظهر هذه الناحية، حرص الموارنة على أن تحافظ رتبهم، في مضمونها وجوهرها، على الأصالة المارونيّة؛ لذلك سعوا من خلال حقب طبع الكتب إلى تشذيب العناصر الخارجيّة التي تتنافى وعقيدتهم، وتحدّ من تطوير طقسهم ولاهوتهم.
ه. أسهم طلاّب مدرسة روما، بانفتاحهم على الثقافة الغربيّة وعلومها، في تنقية الطقوس المارونيّة من كلّ ما هو دخيل. وما كثافة الطبعات الطقسيّة، خلال فترات زمنيّة قصيرة، إلاّ تعبير عن رغبتهم في إصلاح الطقوس وتجديدها والحفاظ على تفرّدها. الليتورجيا، بالنسبة إلى الموارنة هي ثابتة مكوّنة لكنيستهم سكبوا فيها روحانيتهم ولاهوتهم وعبّروا عن إيمانهم وعقيدتهم، لذلك عرفت الكنيسة المارونيّة حركة إصلاحيّة ليتورجيّة شبه متواصلة.
و. عمل البطريرك إسطفان الدويهيّ على تجديد الطقوس وإعادتها إلى أصالتها المارونيّة؛ فوضع القواعد الثابتة الّتي منها ينطلق الإصلاح الليتورجيّ الحديث.
ز. عرف تاريخ الليتورجيّا المارونيّة تجاذبًا بين العودة إلى الجذور وإدخال عناصر غريبة على الطقس، إلى أن أتى المجمع الفاتيكانيّ الثاني ودعا بصراحة إلى العودة إلى الجذور وإبراز الهويّة اللاهوتيّة والليتورجيّة الخاصّة بكلّ كنيسة، لاسيّما روحانيات الكنائس الشرقيّة وآبائها، حتى تُسهم في إغناء الروحانيّة المسيحيّة على مستوى الكنيسة الجامعة. فكلّ توجيهات الكنيسة الجامعة والدوائر الرومانيّة والبطريركيّة المارونيّة تصبّ في هذا الاتّجاه، ما يتطلّب اليوم، وبجِدّيّة عالية، تنشئة ليتورجيّة باتّجاه أنطاكية والحضارة السريانيّة المارونيّة، دون إغفال الواقع الرعويّ وكلّ التحدّيات والتغييرات التي تواجه الكنيسة في الشرق وفي بلدان الانتشار؛ وانطلاقًا من هذه المنهجيّة، عمدت الكنيسة المارونيّة عبر اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة إلى إنعاش الحياة الطقسيّة وإظهار ثوابتها اللاهوتيّة والروحانيّة[10].
ثالثًا: وضعها الحاضر وآفاق مستقبليّة: دور الليتورجيّا في توحيد الموارنة في النطاق البطريركيّ وفي عالم الانتشار
ينتج الواقع الطقسيّ الراهن في الكنيسة المارونيّة من تشعّبات وتراكمات تاريخيّة مختلفة، يضاف إليها تيّارات فكريّة وثقافيّة واجتماعيّة متعدّدة، أثّرت في الليتورجيا، في طقوسها ونصوصها.
وتجاه هذا الواقع، قامت الحركة الطقسيّة الناشطة في مختلف الحقول، لاسيّما في تأليف الصلوات والتراتيل فكثر المصلحون، كلٌّ بحسب إلهامه، حتى بتنا نجد كتبًا مختلفة، ورتبًا متعدّدة، منها القديم والحديث والمستحدث. وسرعان ما تحوّلت هذه الحركة الطقسيّة من عملٍ إيجابيٍّ إلى تضعضع وفوضى في بعض الأماكن والأحيان ومع بعض الكهنة والرعايا. علاوةً على ذلك، راح دعاة كُثر للإصلاح الطقسيّ يسمحون لأنفسهم باستنباط رتبٍ طقسيّة جديدة غير متطورة عن أصل مارونيّ خاصّ[11].
أمام هذا الواقع أصبح الإصلاح الطقسيّ ضرورة ملحّة من أجل ترتيب النصوص وتوحيد الرؤية داخل الكنيسة المارونيّة. فيجتمع الموارنة في النطاق البطريركيّ وبلدان الانتشار، كي يحتفلوا أينما حلّوا في ليتورجيا واحدة تعبّر عن أصالتهم تفرّدهم.
الإصلاح الليتورجيّ يعني بشكل مباشر الانتشار المارونيّ في بلدان متعدّدة من العالم؛ فالليتورجيا هي من أهمّ العوامل التي تربط الموارنة بالكنيسة الأمّ وتسهم في وحدتهم في بلدان انتشارهم. ففي عالمنا المعاصر، وفي هذه الحقبة التاريخيّة بالذات حيث نرى صحوة الإتنيّات من جهة، وإعلان النظام العالميّ الجديد من جهة أخرى، يشعر الموارنة بالحاجة القصوى إلى أن ينهجوا نهج الكنيسة المارونيّة الليتورجيّ والكنسيّ والفكريّ المتمثّل بالكرسيّ البطريركيّ في بكركي. وهكذا، فاللجان الليتورجيّة في بلدان الانتشار تنطلق من الإصلاح المركزيّ وتطوّره، وتتكيَّف مع واقع أبنائها، ضمن المجتمعات الجديدة التي توجد فيها، مع المحافظة على الشخصيّة المارونيّة وإبراز معالم الهويّة. وهنا، لا بدّ من الثناء على الجهود الكبيرة التي تبذلها أبرشيات الانتشار للتواصل الدائم مع الكنيسة الأمّ، منسجمة مع توجيهاتها. كما تجدر الإشارة، في هذا المجال، إلى ضرورة أن يحافظ الطقس على بعض العناصر المشتركة في اللغة السريانيّة مثل “القاديشات آلوهو” و”كلام التأسيس” وغيرها من الصيغ الطقسيّة. فوحدة القالب تُسهم في وحدة القلب، وانطلاقًا من الإرث الليتورجيّ يكون الموارنة سفراء كنيستهم وثقافتهم في العالم، ومن خلالها يتفاعلون مع ثقافات الكنيسة الجامعة، ويكون لهم فيها مكانتهم ودورهم.
رابعًا: ميزاتها
الليتورجيا المارونيّة غنيّة في أبعادها اللاهوتيّة والإنسانيّة. إنّها حقًّا مدرسة إيمان تتجسّد في العالم لتُنير طريقه بأنوار الملكوت؛ ومن أهم أبعادها:
1. البعد التدبيريّ – الثالوثيّ
تبرز معالم هذا التدبير في صلوات الإفخارستيّا المارونيّة. فصلاة النافور لها طبيعة تدبيريّة، والكنيسة تلخّص من خلالها مراحل التدبير الإلهيّ، إذ تشكر الآب لأنّه الخالق المحبّ الذي أراد أن يخلّص آدم والجنس البشريّ بعد السقطة الأولى؛ توّج تدخّل الآب هذا في ملء الزمن بأن أرسل ابنه الوحيد – الكلمة، فتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، يدبّر كلّ شيء محقّقًا إرادة الآب الخلاصيّة بتقدمة ذاته على الصليب، وتقدمة جسده ودمه لحياة العالم؛ وأكمل الآب تدبيره فأرسل روحه القدّوس ليحلّ على التلاميذ في العليّة؛ والكنيسة تطلب إليه أن يحلّ روحه عليها وعلى القرابين التي ترفعها، ليحوّلها ويكمّلها كلّها بختمه الإلهيّ. يتمثّل هذا البعد التدبيريّ في مجمل الرتب والصلوات الطقسيّة لاسيّما في بواعيث الفرض الإلهيّ من خلال صيغ لافتة نذكر منها: “الآب أرسل ابنه إلى العالم، الابن حقّق الخلاص بموته وقيامته والروح القدس كمّل ويكمّل جميع الأسرار ويختمها بوسمه الإلهيّ”[12].
2. البعد الكريستولوجيّ
تظهر المعاني اللاهوتيّة والكتابيّة لهذا البعد الكريستولوجيّ – المسيحانيّ عبر حدثين أساسيّين في رسالة يسوع المسيح العلنيّة: حدث عماده على يدّ يوحنّا في نهر الأردن الذي شكّل بدء رسالته التبشيريّة، وحدث موته على الصليب في الجلجلة وقيامته المجيدة من بين الأموات. لقد جمع العماد في الطقس المارونيّ هذين الحدثين وعكس من خلالهما المفهوم اللاهوتيّ في الطقس الأنطاكيّ السريانيّ، الذي ركّز في تدبير الابن – الكلمة وتجسّده وعماده ورسالته الخلاصيّة، ومن ثمّ آلامه وموته على الصليب وقيامته من بين الأموات. فعماد الربّ يسوع أصبح أنموذجًا لعماد كلّ مؤمن، إذ يُعمَّد فيحيا في المسيح ويحمل رسالته إلى العالم، ملكًا يشهد لمحبّة الآب، ونبيًّا يعلن بشرى القيامة وكاهنًا يشترك بكهنوته. وعماد المؤمن يغدو ميلادًا جديدًا، فضلاً عن أنّه موت عن الإنسان العتيق آدم الأوّل، على مثال موت الربّ، ليحيا الإنسان كخليقة جديدة على مثال آدم الثاني يسوع المسيح القائم من بين الأموات[13].
3. البعد الإسكاتولوجيّ
يتميّز لاهوت الليتورجيا المارونيّة بنفحة نهيويّة ومعاديّة، تظهر في مجمل الاحتفالات والنصوص الليتورجيّة، وبخاصّة منها النصوص المتعلّقة بالقربان، جسد الربّ والقيامة – الحياة الجديدة. ونصوص الجنّاز المارونيّ الغنيّة تحمل أبعاد الرجاء وعيشه واعتباره قاعدة ثابتة ومتينة للإيمان المسيحيّ. من هذا المنطلق، نفهم روحانيّة يوم سبت النور في الليتورجيا المارونيّة، ولاهوت النـزول إلى الجحيم وانتظار فجر القيامة، وترقّب مجيء العروس السماويّ “ماران أتا” الّذي سيُشرق في مجيئه الثاني على “مستقيمي القلوب”. والكنيسة إذ تحتفل هنا على الأرض، بالليتورجيا بكلّ رمزيّتها، تعكس بذلك احتفال السماء بليتورجيا الحمل الإلهيّ؛ وعليه، تشكّل ليتورجيا الأرض تذوّقًا مسبقًا لطعم ليتورجيّا السماء؛ فالليتورجيّا هي احتفال بقيامة الربّ، وفرح بعرس الكنيسة المولودة من حشا جرن المعموديّة، وبالتالي، عيد السماء والأرض في آن[14].
4. البُعد المريميّ
تعتبر الليتورجيا المارونيّة، مريميّة بامتياز. ويبدو اللاهوت المريميّ واضحًا في أقدم النصوص، إذ يركّز في العذراء مريم “أم الله” في فهم التدبير الإلهيّ لخلاص الإنسان. هذا التدبير، الذي يخصّص مقامًا كبيرًا، متعدّد الوجوه ومتكامل التنسيق للعذراء مريم، وعيش مراحل الخلاص تلك في مختلف الصور والرموز، فيُظهر العذراء – حوّاء الجديدة التي على يدها يتمّ الخلاص وهي “الأمّ البتول” التي بشّر بها الأنبياء والتي منها سيولد “عمّانوئيل”، “المخلّص” الذي سيفدي الإنسان، وهي تشاركه في عمل الفداء[15].
5. اللاهوت الكتابيّ
تتأصَّل الليتورجيا المارونيّة في الكتاب المقدّس، ويحتلّ هذا الأخير، في عهديه القديم والجديد، المركز الأساسيّ فيها، حتى يبين من الصعب أحيانًا فصل النصّ الليتورجيّ عن النصّ الكتابيّ، فلا ليتورجيا بدون كتاب مقدّس. ويشكّل الاحتفال الطقسيّ الواحة الكنسيّة الفُضلى لقراءة “كلمة الله” وإعلان “البشرى”. والليتورجيا المارونيّة، في عمق لاهوتها، بيبليّة، وللكتاب المقدّس مكانة محوريّة فيها؛ فهي تصلّي الكتاب المقدّس وتفكّر فيه وتتأمّله وتفسّره، وتوزّعه زادًا على المؤمنين، وتجعله ينبوعها ومصدر وحيها ورمزيتها ونثرها وشعرها، وغايتها الأخيرة.
وعليه، فالجماعة المارونيّة المصليّة تُعتبر جماعة كتابيّة في محوريّة اللقاء مع “كلمة الله”؛ فيها تفسّر الكلمة وتعلن البشارة التي تحملها الكنيسة رسالة حيّة إلى العالم كلّه[16].
6. البعد الرهبانيّ
تجمَّع تلاميذ مار مارون حول أبيهم الناسك مارون واتّخذوه شفيعًا لهم، وانطلقوا من دير وأديار مار مارون في سورية حيث اختبرو الحياة الليتورجيّة المؤسّسة على طقس الكنيسة الأنطاكيّة السريانيّة. طبع هذا الاطار الديريّ الطقس المارونيّ بالطابع الرهبانيّ الذي يتميّز بصلوات الساعات الخاصّة[17]، وبذكر البيَع والكنائس والأديار في معظم الصلوات والطلبات والأناشيد، وبقراءات متواصلة للكتاب المقدّس في عهدَيه القديم والجديد، وبمسحة خاصّة من التوبة الدائمة والزهد في العيش والنسك والتقشف، حتى قيل بأنّ الموارنة يُشبهون الجماعات الرهبانيّة بحيث يُصلّون صلوات الرهبان ويحتفلون، شأن الرهبان، بسائر الرتب الطقسيّة؛ وبذلك، كانوا يعبّرون عن هذا البعد الرهبانيّ بعيش جذريّة الإنجيل واتّباع المسيح بحمل صليبه الظافر.
7. البعد الإنسانيّ
عكست الليتورجيا المارونيّة روحانيّة خاصّة بالإنسان وباختباراته في مختلف حالاته التي يعيشها في مسيرته الإيمانيّة، وجسّدتها في ديناميّة صلاة تصاعديّة نحو الآب الذي يرضى ويقبل ذبيحة الابن التي يرفعها الإنسان المؤمن بقوّة الروح القدس.
تتميّز الليتورجيا المارونيّة ببعدها الإنسانيّ – الأنتروبولوجيّ، من خلال نصوصها ورموزها وحتى هندستها. فلقاء الجماعة المصليّة، وانسجام المؤمنين الخارجيّ مع بعضهم، يعبّر عن وحدة فكريّة وروحيّة تتفاعل فيها القيم الإنسانيّة والاجتماعيّة في كلّ أبعادها وحالاتها وواقعها. وتعكس النصوص الليتورجيّة الإختبارات المتعدّدة التي مرّت بها الكنيسة المارونيّة؛ فمن آلام واضطهاد وحروب وتهجير، إلى أفراح الشراكة والتضامن والوحدة والمغفرة والمسامحة، إلى أمجاد الإنتصار بقيامة الربّ وتحرير الشعب وظفر القدّيسين الطالعين من هذه الكنيسة[18]. والطابع الشعبيّ هو من أهم الخصائص لهذه الليتورجيّا التي تتجلّى بالبساطة والعمق في آنٍ. سهولة في اللحن السُريانيّ، بساطة في هيكليات الرتب وصيغها، عمق في المعنى اللاهوتيّ وفسحة لمشاركة الشعب في الصلوات والتراتيل داخل الاحتفال القربانيّ وخارجه. يحرص الإصلاح الليتورجيّ المعاصر أن يحافظ على هذه الخاصّة التي تطبع بامتياز الليتورجيا المارونيّة.
8. لاهوت التوبة
يبرز لاهوت التوبة في كثير من النصوص الليتورجيّة، إذ تعبّر بغالبيّتها عن ارتباطها بحقيقة الصليب وآلام الربّ الفادي وموته، ولا يغيب عنها بُعد الصوم ومعناه التقشفيّ وارتباطه بالتوبة. وقد يكون ذلك بتأثير مباشر من الاختبار الرهبانيّ والطابَع الزهديّ الذي ميّز الآباء السريان والشعب المارونيّ. يعبّر حسيًّا عن لاهوت التوبة في رتب وضع البخور ويرمز إليه بالسجود و”المطانيّة” تعبيرًا عن إنحناء الخاطئ وندمه على الخطايا التي اقترفها وخضوعه التامّ للعظمة الإلهية.
تشكِّل حالة التوبة التي يعيشها المؤمن الطريق الذي يوصل إلى فرح القيامة ورجاء الحياة الجديدة وإلى أداء الشكر لمحبّة الربّ ومواهبه الفيّاضة للبشر[19].
الفصل الثاني : تجديد الليتورجيا المارونيّة
1. ضرورة التجديد
الإصلاح الليتورجيّ ورشة دائمة في الكنيسة، ولا شكّ في أنّه دفع إلى الأمام على أثر المجمع الفاتيكانيّ الثاني، وبدأت تأخذ الكنائس مبادرات إصلاحيّة وفق الخطوط التي رسمها المجمع وحدّدتها القوانين الخاصّة.
يتمّ الإصلاح لحقبة زمنيّة معيّنة، لأنّ الليتورجيا هي صلاة الكنيسة الحيّة، وعليها أن تخاطب إنسان اليوم. فجماعة المؤمنين، التي تعيش في مكانٍ وزمانٍ محدَّدين، مدعوّة إلى فهم معاني الليتورجيا ورموزها والمشاركة فيها بطريقة واعية وفعّالة ومُثمرة.
والتجديدُ الطقسيّ لا يعني العودة إلى الممارسات الماضية، بل هو حسن قراءة للواقع الراعويّ استنادًا إلى التقاليد الثابتة وتطوّرها ضمن الخطّ الليتورجيّ السليم، حتى تؤدّي إلى مشاركة شعبيّة فعليّة منسجمة مع روح الطقس والذوق السليم.
في الإطار الإصلاحيّ، شهدت الكنيسة المارونيّة عبر تاريخها وبطريقة خاصّة ومباشرة منذ أكثر من حوالى خمسمائة سنة وحتى اليوم، نزعة نحو الإصلاح الدائم مقارنة بغيرها من الكنائس الشرقيّة. وهذه إشارة واضحة إلى اهتمام الموارنة في الحياة الطقسيّة وتطويرها وجعلها أكثر ملاءمة مع إرثهم الأنطاكيّ السريانيّ وإظهار تفرّدهم بغية إشراك الشعب في الحدث الطقسيّ.
وتجاوبًا مع توصيات المجمع الفاتيكانيّ الثاني، تقوم الكنيسة المارونيّة اليوم بإصلاحها الليتورجيّ عبر اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة. ينطلق العمل من وضع النصّ السريانيّ أساسًا للنصوص المصلحة التي منها تنبعث ترجمات من وحي النصّ الأصليّ وصيغ متطوّرة من النصّ السريانيّ، تحافظ كلّها على العمق اللاهوتيّ والأصالة الروحانيّة التي تشكّل تراثًا تتناقله الأجيال وتعبّر فيه عن اختبارات روحيّة وإنسانيّة صالحة لكلّ جيل، مؤكّدة بذلك المبدأ الآتي: الهويّة والتطوّر هما شريعة الحياة في كلّ شيء[20].
2. مبادئ التجديد: العودة إلى الأصول الأنطاكيّة والتحديث الرعويّ
الإصلاح الليتورجيّ منوط فقط بالسلطة الكنسيّة، ويستند إلى الدراسات والمشاريع الإصلاحيّة التي تقوم بها اللجنة البطريريكيّة للشؤون الطقسيّة وهي المرجِع الكنسيّ المختصّ، إذ تقدّم أعمالها لمجمع السادة المطارنة برئاسة غبطة السيّد البطريرك لإقرارها وفق القوانين الكنسيّة والإجراءات المتّبعة. من هنا تتوزّع الكتب الطقسيّةُ الجماعات المصليّة لتستعمل كمرجع كنسيّ رسميّ يُسهم في إحياء الايمان في داخلها. وأهمّ مبادىء التجديد هي:
أ. الانطلاق من الأصالة الليتورجيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة، وحفظ هويّتها نقيّةً من أي دخيل يتعارض مع هذه الأصالة ويغيّر ملامح هذه الهويّة.
ب. استحداث صيغ طقسيّة على قاعدة “التطوّر العضويّ” أيّ أنّ الرتب الليتورجيّة يجب أن تصلح بالعودة إلى جذورها الخاصّة وبالتطوّر المستند إلى طبيعتها الأساسيّة وثوابتها اللاهوتيّة والكتابيّة ضمن خطّ التقليد الكنسيّ؛ ويتمّ الاستحداث عندما تقضي به مصلحة الكنيسة بصورة أكيدة وحازمة[21].
ج. جعل الرتب رعويّةً وشعبيّة فيها الحركة الرمزيّة والأناشيد، وصلوات تتلى على لسان الشعب يشارك فيها اشتراكًا واعيًا ومُثمرًا[22].
د. تُشكِّل الدورة الطقسيّة محورًا في الإصلاح الليتورجيّ بحيثُ تُركِّز في سرّ المسيح، وفيه ترتبط سائر الأسرار والرتب الكنسيّة.
ه. إمكانيّة التطوّر في الصيغ الليتورجيّة وفق حاجات العصر، حتى تتلاءم وتطلعات الجماعات المؤمنة المتنوعة شرط ألاّ يتبدّل التنسيق الطقسيّ العام.
و. استخدام لغة طقسيّة تتميّز بسهولة الصياغة ووضوح المعنى وعمق الروحانيّة الكتابيّة واللاهوتيّة حتى تساعد الجماعة على الدخول في دينامية الصلاة. المطلوب إذًا هو نص ليتورجيّ يعبّر عن اختبار الجماعة الإيمانيّ بلغة تساعد على ارتفاع القلب والعقل إلى الله، وبصياغة تعي أهمية الانفتاح على الكنائس الأنطاكيّة والسريانيّة والشرقيّة من جهة وعلى الثقافة العربيّة والإسلاميّة من جهة أخرى[23].
3. دور اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة
عملاً بأحكام المجمع اللبنانيّ والإرادة الرسوليّة: “في الطقوس والأشخاص للكنائس الشرقيّة”، والمجمع الفاتيكانيّ الثاني في “دستور في الليتورجيا” ومرسوم تطبيقه، وفي قراره عن الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة، وفي “مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة” و”التوجيه” لتطبيق المبادئ الليتورجيّة التي وردت فيها، أنشأ السيّد البطريرك، بصفته المشرف الأوّل على الليتورجيا في الكنيسة، لجنة خاصّة دعاها “اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة”[24].
غاية هذه اللجنة جعل الليتورجيا وسيلة تبشير، ومدرسة إيمان، وأداة تقديس، وذلك بدرس وتحضير إصلاح الطقوس والرتب البيعيّة، والزيّاحات والعبادات العامّة، والألحان والموسيقى الكنسيّة، وتجديدها وعرض ذلك على السيّد البطريرك ومجمع السادة الأساقفة لإقراره والعمل به، فتصبح الليتورجيا محطّ أنظار، يُقبل الناس عليها ويشتركون فيها اشتراكًا واعيًا تامًّا وفعّالاً يستقون من ينبوعها، الروح المسيحيّة الحقّة. يشمل عمل هذه اللجنة ودورها كامل النطاق البطريركيّ وبلدان الانتشار.
تستطيع اللجنة، إدراكًا لغايتها، بطريقة أفضل، أن تستعين بمعاهد ومؤسّسات وبخبراء إكليريكيّين وعلمانيّين، يختارون من كلّ الأبرشيّات، في النطاق البطريركيّ وفي عالم الانتشار. وتضع اللجنة جدولاً بمواضيع أبحاثها، ترتّب فيه الأوَّليات وفقًا لأهميّة كلّ منها، وتحدّد بموجب روزنامة الوقت اللازم لإنجازها، والخطّة التي ستتّبعها في برامجها.
تتقيّد اللجنة في عملها بالمبادئ التي حدّدها المجمع الفاتيكانيّ الثاني، وتعيد النظر، حيثما تدعو الحاجة، في الطقوس برمّتها، بما ينبغي من الرويّة، فتصلح النصوص وتنظّم الرتب، فيتسنّى للشعب أن يتفهّمها. فالليتورجيا تتألّف من قسم ثابت من وضع إلهيّ لا يتغيّر، ومن أقسام عارضة من وضع بشريّ يجوز، بل يجب، أن تتبدّل مع الزمن لتبعث في الكنيسة حيويّة جديدة تتلاءم ومقتضيات الظروف والأشخاص وحاجات كلّ عصر[25].
4. دور الأساقفة في الحياة الليتورجيّة
تنظيم الطقوس في الحياة الكنسيّة، المنوط أساسًا بالسلطة الكنسيّة، يتحقّق، عمليًّا، بعمل الأسقف ودوره الأساسيّ في أبرشيّته. لأنّ الأسقف، يعتبر، كالكاهن الكبير والأوّل لقطيعه؛ وحياة المؤمنين الروحيّة تأتي منه وتتعلّق به، بكونه حارسًا ومنشّطًا ورئيسًا للحياة الليتورجيّة بأجمعها في الأبرشيّة[26].
يقوم دور الأساقفة على تعزيز الحياة الليتورجيّة وتنظيمها بحسب رسوم الكنيسة المارونيّة الخاصّة وعاداتها المشروعة، فهم لا يتصرّفون من عندهم، بل يستندون إلى التراث الخاصّ بالكنيسة المارونيّة، وبذلك يحقّقون الشراكة مع إخوتهم الأساقفة. عليهم أن يتّحدوا مع إكليروسهم ويكونوا حارسين متنبّهين لذاك الضمير الليتورجيّ الحاضر والعامل في الذهن الحيّ لشعب الله في أبرشيّاتهم؛ فشعور الشعب المؤمن جازم في فهم عقيدة الإيمان، وعليه، يجب الحفاظ على الاحتفال بهذا الإيمان[27]. وعليه، يجب أن ينشئوا لجانًا ليتورجيّة تتواصل مع اللجنة البطريركيّة وتعمل على تدعيم العمل الليتورجيّ في الأبرشيّة.
وعلى الشعب المؤمن أن يقدر قدرًا عظيمًا الحياة الطقسيّة في الأبرشيّة حول الأسقف، لاسيّما في الكنيسة الكاتدرائيّة، حيث يجب أن تكون مثالاً يحتذى في الحياة الليتورجيّة في الأبرشيّة[28].
ولأجل تعزيز الحياة الليتورجيّة في الأبرشيّة، على الأسقف أن يجهد في تشجيع التنشئة الليتورجيّة المستديمة لكهنته، من خلال دورات تثقيفيّة ومحاضرات دوريّة تعنى بشؤون الليتورجيا النابعة من التراث الكنسيّ الأصيل عند الموارنة[29].
وعلى الأسقف أن يقود قطيعه إلى المراعي الليتورجيّة الخصيبة بالسهر على تطبيق القواعد الطقسيّة الخاصّة بالكنيسة المارونيّة وبتوجيهاتها المستمرّة لتنشيطها ونموّها وتقدّمها، وهي تحافظ على تراثها العريق والغنيّ في آن[30].
الفصل الثالث : التنشئة الليتورجيّة
1. في المدارس الإكليريكيّة والرهبانيّة
يتحقّق الإصلاح الليتورجيّ في الكنيسة عندما يجمع بين أمرين: الأوّل يتناول التنشئة العلميّة والبحثيّة لليتورجيا من الناحية التاريخيّة واللاهوتيّة والرعويّة، وهذا يعني دراسة الوثائق المخطوطة والمطبوعة ومقارنتها بسائر الليتورجيّات الشرقيّة منها والغربيّة؛ والثاني يهتمّ بالتنشئة المستمرّة للكهنة وللإكليريكيّين والرهبان والراهبات والعلمانيّين بغية تعميق الفهم الليتورجيّ والمعرفة الطقسيّة بأبعادها اللاهوتيّة والروحيّة والرعويّة كافّةً من جهة، وإحياء وإنعاش الاحتفالات الطقسيّة في الجماعات الرعويّة المصلّية من جهة أخرى.
لذا، تدعو الكنيسة القائمين على المدارس الإكليريكيّة والمؤسّسات الرهبانيّة إلى أن يولوا التنشئة الليتورجيّة الأهميّة الواجبة خدمة للكنيسة، ودعمًا للكهنة وللإكليريكيّين كهنة الغد، وللرهبان والراهبات شهود محبّة يسوع وحضوره الفعّال في كنيسته. هذه هي الرسالة المطلوبة منهم، أن ينسجم التعليم اللاهوتيّ والثقافة المسيحيّة العميقة والشاملة التي يتلقّونها مع الأبعاد الليتورجيّة والرعويّة التي عليهم أن يحافظوا عليها، لأنّها رمز وحدتهم وأمانتهم لهويّتَهم المارونيّة الأصيلة[31].
يجب وضع تعليم الليتورجيا في المدارس الإكليريكيّة والرهبانيّة وفي معاهد اللاهوت بين المواد الأساسيّة والضروريّة المهمّة. كما يجب أن تدرّس من الوجهات اللاهوتيّة والتاريخيّة والروحيّة والرعويّة والقانونيّة كافّة. وعلى الإكليريكيّين والرهبان والراهبات أن يتنشّأوا تنشئة ليتورجيّة وروحيّة كاملة، إن من ناحية درسها وفهمها وإن من ناحية الإشتراك فيها عبر الإحتفال بالأسرار المقدّسة أو سائر الرتب الطقسيّة المشّبعة بالروحانيّة المسيحيّة الشرقيّة الأصيلة[32].
2. التنشئة المستمرّة للكهنة
تبغي الكنيسة المارونيّة من خلال إصلاحها الليتورجيّ أن يصل المؤمنون إلى المشاركة الفعّالة والواعية في الاحتفالات الطقسيّة، لأنّها الينبوع الأساس الذي تستقي منه الجماعات المؤمّنة الروح المسيحيّة الحقّة والعقيدة اللاهوتيّة الأكيدة؛ لهذا السبب تطلب الكنيسة إلى الرعاة أن يسعوا جهدهم لتأمين تنشئة مستمرّة للكهنة في الأبرشيّات، تنشئة ليتورجيّة ورعويّة، لاهوتيّة وروحيّة، خدمة للكنيسة التي تحتفل بسرّ يسوع المسيح الخلاصيّ[33].
لبلوغ هذه الغاية، على الرعاة أن يتشرّبوا بعمقٍ من الليتورجيا ومن فعاليّتها وقوّتها ليتمكّنوا من أن يعطوها ويعلّموها ويأمروا بمتابعتها عبر تنشئة مستمرّة لكهنتهم، الأمر الذي يجعل من هذه التنشئة واجبًا ملزمًا في الأبرشيّات[34].
3. توعية المؤمنين على المفاهيم الليتورجيّة
لم تكن الليتورجيّا المارونيّة بعيدة عن واقع المؤمنين وحياتهم. لقد أظهرت اختباراتهم الحياتيّة في صلواتهم وخيارات حياتهم المسيحيّة وحاجاتهم الروحيّة في ظلّ الاضطهادات والآلام والأفراح؛ وكانت الليتورجيا، في هذا الإطار؛ مرآة تعكس إيمان هذه الكنيسة المؤمنة بالله الثالوث، وبتجسّد الابن الوحيد الإله الكامل والإنسان الكامل؛ ليتورجيا توفّق بين الاحتفال بالتدبير الإلهيّ وعيش الاختبار البشريّ الحرّ والصادق.
لذا، يطلب إلى الرعاة أن يجتهدوا، بغيرةٍ وصبرٍ وصدقٍ، لتأمين تنشئةٍ طقسيّة للمؤمنين وتوعيتهم على مفاهيمها الضروريّة، ليتمكّنوا من المشاركة الفعّالة في الاحتفالات، مشاركة روحيّة، ترفع قلوبهم إلى الله وهم يحتفلون حسيًّا بسرّه الخلاصيّ[35].
4. دور المُحتفل والشمامسة والمنشّطين
الليتورجيا هي احتفال جماعيّ للكنيسة بكل فئاتها؛ وتنـزع عنها الصفة الخاصّة الضيّقة. إنّها عمل الشعب والخدمة التي تؤدّيها الكنيسة، جماعة المؤمنين التي هي سرّ وحدة جسد المسيح. وعليه، فإنّ هذا الاحتفال يخصّ الكنيسة بجميع مؤمنيها، كلّ عضوٍ فيها باختلاف وضعه ودرجته ووظيفته.
وعلى خادم السرّ والكهنة المشاركين، كما على الشمّاس والمنشّط أن يقوم كلٌّ بوظيفته بخدمته في أثناء الاحتفال الطقسيّ، بحسب ما تمليه درجته الكنسيّة وخدمته الرعويّة وتفرض عليه طبيعة الاحتفال وقواعده الطقسيّة. كما على كلّ واحد منهم ألاّ يتعدّى حدود دوره، ويتعلّم كيف يساعد بحكمة دون اعتبار نفسه مستقلاًّ وقائمًا بذاته. هذه المشاركة تتطلب من هؤلاء جميعًا ثقافة ليتورجيّة واسعة وعميقة، وروحانيّة مؤسّسة على الإنجيل ليتمكّنوا من تأدية واجبهم بطريقة صحيحة ومنظّمة[36]. يسمّى هذا النهج “المشاركة الليتورجيّة” وهي ممارسة نشأت وتطورت بمفهومها الطقسيّ في الكنائس الليتورجيّة الشرقيّة وتوسّعت لتشمل الطقوس المسيحيّة الأخرى[37].
5. دور الجوقة
للترنيم مكانة محورية في الاحتفال الطقسيّ لاسيّما في الليتورجيّات الشرقيّة. إنّه التعبير عن إتّحاد كنيسة الأرض بكنيسة السماء في أداء نشيد الشكر والتمجيد الذي ترفعه الكنيسة بلا انقطاع إلى الآب السماويّ لمحبّته التي تجلّت بالخلاص الذي حقّقه الابن ويتمّمه الروح في العالم؛ والألحان الكنسيّة هي انعكاس لتسبيح الملائكة في ليتورجيا الحمل، من هنا امتازت الليتورجيات بإتقان الألحان وكان لا بدّ من جوقات مدرّبة تقوم بهذه الخدمة. والطقس المارونيّ الذي يتميّز بألحان جميلة ذات طابع شعبيّ لم يحصر الخدمة اللحنية بالجوقة، بل تميّزت جوقة المرتّلين بمساعدة الشعب على تأدية الألحان، وهذه من أبرز ميزات هذا الطقس. من هنا لا بدّ أن تعي الجوقات المارونيّة اليوم هذه الثوابت الطقسيّة التي تطبع ليتورجيتها المارونية وتقوم بخدمة الاحتفال بإتقان وروحانيّة فتتناغم الأصوات العذبة بالقلوب المصليّة، فتشكِّل بذلك الجوقة العنصر المساعد للجماعة المصليّة على المشاركة في الألحان وفق الأصول الموسيقيّة وبروحانيّة وخشوع مميّزين. لذلك على الجوقة كما على المرتّلين الإفراديّين أن يلتزموا بما تمليه عليهم طبيعة الاحتفال الطقسيّ وقواعده، دون تعدٍّ على حقّ المؤمنين بالمشاركة؛ فالليتورجيا للشعب ولا يحقّ للجوقة أن تأخذ مكان الشعب؛ دور الجوقة مساعد لا مستقلّ واختيارها للألحان يجب أن يتطابق مع الأصول الطقسيّة، من هنا وجب التنسيق بين المحتفل والجوقة وفريق العمل الطقسيّ في تحضير الاحتفالات في الرعية فلا يسمح بعد ذلك بالارتجال والمزاجيّة في هذا الشأن.
وفي هذا السياق وجب التمييز والفصل بين الجوقة الطقسيّة حيث تؤدّي مهامها خلال الإحتفالات والكورس الدينيّ الذي يعنى بإحياء ترانيم كنسيّة خارج نطاق الاحتفال الطقسيّ.
وعلى الجوقة والمرتلين الإفراديين أن يمارسوا مهمّاتهم بتقوى خالصة وترتيب يليق بخدمة بيت الله وسرّه الخلاصيّ، وهم يتمتّعون بروح طقسيّة مشبعة بثقافة ليتورجيّة وروحانيّة وأداء خشوعيّ مصلٍّ.
6. ضرورة إشراك الشعب بشكل فعّال
الطقوس احتفال، والاحتفال للشعب؛ والطقوس المارونيّة معروفة بلونها الشعبيّ. وعليه، لا يمكن أن تبقى جماعة المؤمنين غريبة، مشاهدة ومستمعة وصامتة؛ فدور الكاهن المحتفل، والشمّاس والمنشّط الليتورجيّ والجوقة والمرتّلين الإفراديّي، هو مساعدة الشعب على المشاركة الواعية والتقويّة والفعّالة في الترتيل والصلوات والزيّاحات. عندها، تصبح الليتورجيا تعبيرًا صادقًا عن صلاة الشعب وتضرّعاته وتمجيده لله خالقه وشكره له على كلّ إنعاماته وهباته، فيتجدّد المؤمنون ويتقدّسوا بالمسيح، ويصيروا كلّهم في الله، أخيرًا، كلاًّ في الكلّ.
الفصل الرابع: قواعد عامّة بشأن المشاركة في مختلف الرتب الليتورجيّة
غاية الليتورجيا هي تمجيد الله وتقديس البشر؛ فمن الضرورة بمكان أن تشارك الجماعة المؤمنة في فعل العبادة هذا بطريقة واعية ومثمرة تظهر جلالة هذه الخدمة ووقارها الرفيع. فانطلاقًا من هنا ترسم الكنيسة المارونيّة قواعد المشاركة في الرتب الطقسيّة حتى تتلألأ بالبساطة الشريفة والإيجاز العميق فتتحاشى الصيغ التكرار الذي لافائدة منه، حتى تتلاءم مقوّمات الاحتفال مع حاجات المؤمنين المتنوعّة وفق ثقافاتهم وأوضاعهم الاجتماعيّة، سواء في النطاق البطريركيّ أو في بلدان الانتشار. في هذا الإطار الاحتفاليّ اللائق تأتي الليتورجيا لتعبّر عن حضور المسيح الفاعل في كنيسته وفي العالم وتعكس السرّ الفصحيّ الذي حقّقه الربّ مرّة واحدة وما زال يحقّقه من خلال الممارسة الأسراريّة التي تؤدّيها الكنيسة. ولكي تظهر الليتورجيا المارونيّة بأجلى وحدتها في الاحتفال الطقسيّ، عبر الكلمة واللحن والحركة، والجماعة المؤمنة المصليّة، كان لا بدّ من وضع قواعد عامّة بشأن المشاركة في مختلف الرتب الليتورجيّة[38]. لذا، يوصي آباء المجمع البطريركيّ المقدّس بما يأتي:
1. أسرار التنشئة المسيحيّة
غاية الأسرار تقديس البشر وبنيان جسد المسيح. وبكونها علامات حسيّة، تأخذ الحياة الأسراريّة في الكنيسة بعدًا تعليميًّا فهي لا تفترض الإيمان وحسب بل تعبّر عنه وتقوّيه وتغذّيه فتفيض النعمة في قلوب البشر. وعليه، تجب تهيئة المؤمنين لقبول هذه النعمة بصورة صحيحة[39].
تُعتبر أسرار التنشئة وحدة لا تتجزّأ؛ من خلالها يتمّ الدخول في حياة المسيح كما في الجماعة التي تحيا فيه. إنّها النداء الأوّل إلى الإيمان الذي يبلغ ذروته في السرّ الفصحيّ، أيّ في سرّ موت الربّ وقيامته وفيه يعمّد الإنسان، ويصير ابن الله وهيكل الروح القدس بمسحة الميرون، فيتأهّل للمشاركة في مائدة الإفخارستيا، وليمة الملكوت.
تؤكّد المصادر الليتورجيّة المارونيّة ووثائقها المخطوطة والمطبوعة الرابط الوثيق الذي يجمع بين أسرار التنشئة المسيحيّة الثلاثة، إن من حيث وحدتها اللاهوتيّة أو من حيث ترابطها الاحتفاليّ. وتعتبر أسرار التنشئة إحتفالاً واحدًا لا يتجزّأ للدخول في حياة المسيح؛ ووفقًا للمفهوم الكنسيّ والممارسة الطقسيّة منذ بداياتها، كان المؤمن يتقبّل الولادة الجديدة العماديّة وموهبة الروح القدس، أيّ الانخراط في شعب الله عبر “علامة” سامية هي وليمة الملكوت. هذا السرّ، إذًا، لا يمكن أن يتجزّأ، ويجب أن يمنح بأسمى تناسق وانسجام[40].
توصي جميع كتب الـرتب المارونيّة، بـأهميّة الإستعداد للمعموديّة وبضرورة أن يسبق منح السرّ تحضير يعبّر فيه عن مسيرة المرشّح نحو المسيح. إلى هذا يعود العُرف العريق في القدم بأن يكون لمن ينال المعموديّة، على الأقلّ عرّاب يساعد المعمّد على أن يسير سيرة مسيحيّة لائقة بمعموديّته ويقوم قيامًا أمينًا بالواجبات التي تقتضيها، دون أن نُغفل دور الأهل في الإعداد لهذا السرّ العظيم[41].
يُحصر منح سرّ المعموديّة في الأساقفة والكهنة. وفي حال الضرورة، يجوز ليس فقط للشمامسة الإنجيليّين بل أيضًا للإكليريكيّين، ولأي مؤمن مسيحيّ. وعليه، يوصي المجمع البطريركيّ المقدّس بـأنّ منح سرّ المعموديّة هو من صلاحيّة خوري رعيّة المعتمد الخاصّ، أو كاهن آخر بإذن مـن ذلك الخوري نفسه أو من الرئيس الكنسيّ المحليّ[42].
يمنح سرّ المعموديّة بالتغطيس الثلاثيّ، بفطنةٍ وتقوى، أو بسكب الماء ثلاثًا على رأس المعتمد. يتِمّ المسح بالميرون المقدّس، مباشرة بعد التعميد، تركيزًا في التنشئة الكاملة في سرّ المسيح الواحد[43].
تُراعى، فـي منح المناولة الإفخارستيّة بعد المعموديّة والميرون المقدّس، تعليمات الشرع الخاصّ الذي يصدره مجمع الأساقفة المارونيّ برئاسة غبطة السيّد البطريرك.
وإلى أن تتبنّى السلطة الكنسيّة تدابير ملائمة للتقليد العريق في الكنائس الشرقيّة، أيّ منح أسرار التنشئة في احتفال واحد، يعمل بما يأمر به مجمع الأساقفة.
2. القدّاس أو الإفخارستيّا
يشكّل الاحتفال بالقدّاس محور العبادة المسيحيّة، فهو الاحتفال بسرّ التدبير الخلاصيّ، الذي حقّقه ربّنا يسوع المسيح؛ إنّه سرّ موته وقيامته وإعطائه كنيسته جسده ودمه؛ السيّد المسيح حاضر في كنيسته عبر كلمته المحيية وعبر المائدة الإفخارستيّة حيث يمثّل أعلى درجات الحضور، وعليه، يُقسم الاحتفال بالقدّاس إلى قسمين أساسيين: كلمة الله وجسد الربّ ودمه[44].
تعتمد رتبة القدّاس التي أقرّها مجمع الأساقفة برئاسة السيّد البطريرك والتي تصدر بموجب مرسوم بطريركيّ دون سواها. كما يعتمد كتابا قراءات الرسائل والإنجيل وكتاب الألحان الطقسيّة وكتاب الإرشادات الطقسيّة، التي صدرت بموجب مرسوم بطريركيّ، دون سواها.
يحتفل “بالقدّاس” على المذبح الرئيس في الكنيسة الرعويّة أو في كنيسة الدير. ويحبّذ القدّاس المشترك برئاسة محتفل ومعاونة كهنة آخرين، تفاديًا للاحتفال بالقداديس الإفراديّة التي يحتفل بها جانبًا[45]، والتي لا يحبّذ الاحتفال بها، لأنّها لا تتناسب وطبيعة الليتورجيا ولاسيّما روحيّة الطقوس الشرقيّة.
يحتفل بالقدّاس بكامل اللباس الكهنوتيّ المنصوص عليه في التقليد المارونيّ العريق. ويلبس الكهنة المعاونون البطرشيل فوق الجبّة أو العباءة، ولا يُسمح بوضع البطرشيل بغير هذه الحالة.
تضاء، على الأقلّ، شمعتان عسليّتان، في القدّاس؛ وفي القدّاس الحبريّ، تُضاف إليهما اثنتان أخريان.
يحتفل بالقدّاس في الأعياد والآحاد والأيّام العاديّة باستثناء يوم الجمعة العظيمة حيث يحتفل برتبة القدّاس السابق تقديسه، ويوم سبت النور. تصير خدمة القدّاس بموجب الإرشادات الطقسيّة الصادرة في كتاب خاصّ.
تُحبّذ المناولة من القربان المقدّس المبارك عليه في القدّاس ذاته، كما يسمح عند الحاجة بالمناولة من القربان المحفوظ في بيت القربان[46].
تعطى المناولة لجماعة المؤمنين المشتركين في احتفال القدّاس، ويجب الانتباه إلى غير المعمّدين الذين يشاركون أحيانًا في القداديس، فلا تعطى لهم المناولة؛ كما، يحبّذ عدم دعوة غير المسيحيّين إلى المشاركة في القداديس، ويُستعاض عنها بدعوتهم إلى المشاركة في رتب دينيّة خاصّة بالمناسبات ذات الطابعَ الوطنيّ.
يناط توزيع المناولة بالأسقف والكاهن والشمّاس الإنجيليّ؛ وإذا اقتضى الأمر، يُسمح للشدياق أو لصاحب درجة كهنوتيّة صغرى بمساعدة الكاهن المحتفل؛ وعند الحاجة القصوى، وبإذنٍ خاصّ من المطران المكانيّ، يمنح هذا الإنعام للمؤمنين الملتزمين[47].
تعطى المناولة تحت شكلي الخبز والخمر المقدّسين. ويجب أن يسبق تناول جسد المسيح ودمه الإعداد الصادق الجِدّيّ والروحيّ[48].
3. الكهنوت والدرجات الكهنوتيّة
الكهنوت في الكنيسة هو سرّ من أسرارها المقدّسة وهو امتداد لرسالة المسيح الكاهن الذي قدّم ذاته في العشاء الفصحيّ وعلى الصليب من أجل فداء العالم، وهو التقدمة الطاهرة التي قرّبت إلى الآب. أرسل السيّد المسيح الرسل كي يواصلوا الخدمة الكهنوتيّة؛ والأساقفة في الكنيسة هم خلفاء الرسل في مهمَّتهم، يواصلون رسالة السيّد المسيح المثلّثة الأبعاد أي التعليم والتقديس والرعاية. فالدرجة الكهنوتيّة تنبعث من خدمة الأسقف فيتميّز الجسم الإكليريكيّ بفعل السيامة المقدّسة بتآلف تراتبيّ وبدرجات واضحة وهي الآتية:
أساقفة وكهنة وشمامسة إنجيليّون؛ ومن ينال هذه الدرجات لا يعود من بعد علمانيًّا، بل يصبح عضوًا في جماعة الإكليروس، منتميًا بحكم الشرع إلى أبرشيّة معيّنة، للخدمة[49]. علاوةً على هؤلاء، يُنشأ خدمة آخرون كي يخدموا شعب الله ويمارسوا الوظائف في الليتورجيا؛ وفي هذا الإطار يوصي المجمع البطريركيّ المقدّس باستعادة تقليد الكنيسة المارونيّة العريق، بسيامة مرشّحين إلى درجة المرتّلين و القارئين والشدايقة، في إطار تعزيز الخدمة الطقسيّة التي تتطلّب أعلى درجات من الشرف والكرامة والحيويّة الراعويّة، والتي تسهم في عيش التزام جديّ للإيمان المسيحيّ، وذلك من أجل تفعيل نقاط التلاقي بين الكنائس الشرقيّة عبر الأمانة لتقاليدها المشتركة.
وفي هذا السياق ذاته يوصي المجمع البطريركيّ المقدّس من أجل أن تستعيد السيامة الشمّاسيّة الإنجيليّة الدائمة مكانتها، خدمةً لوظائف ليتورجيّة منوطة حصرًا بالشمامسة وأيضًا من أجل الإسهام في خدمة البشارة وخدمة المحبّة ببعديها الاجتماعيّ والإنسانيّ. فدرجة الشمّاسيّة قد تكون أساسًا لبلوغ الكهنوت، وقد تكون أيضًا حالة دائمة من أجل مساعدة الأساقفة والكهنة على تدبير الكنيسة، على ما ورد في رسائل القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ[50].
4. التوبة ومسحة المرضى
تبادر الكنيسة برحمة الآب وعطف الأمّ إلى ملاقاة الضعف البشريّ، بمنحها نعمة الغفران بعد المعموديّة. فالمؤمنون الذين اقترفوا الخطايا ويعتزمون التوبة والعيش مجدّدًا في حياة النعمة، ينالون من الله نعمة التوبة، فيتصالحون مع الله ومع ذواتهم ومع الكنيسة بواسطة الكاهن. وصيغة الاعتراف الفرديّ مع الحلّ، تشكّل الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها المؤمن التائب أن ينال بها الغفران، وبخاصّة في زمن الصوم الكبير[51].
ويحبّذ المجمع البطريركيّ المقدّس أن يمنح هذا السرّ العظيم، في إطار رتبة توبة كنسية جماعية يحتفل بها طقسيًّا[52] ويكون محورها كلمة الله وصلاة الجماعة.
سرّ مسحة المرضى هو اعتلان للخلاص وعلامة لحضور يسوع المسيح الطبيب الوحيد للنفوس والأجساد. تُشكّلُ هذه الرتبة إحدى مهمّات الكنيسة التي تكمّل بالروح القدس عمل الخلاص هذا، على ما أوصى به القدّيس يعقوب في رسالته (يع 5/14). وعليه، كانت مسحة المرضى لشفائهم، عبر رتبة تعبّر عن شفاء المؤمن نفسًا وجسدًا من جميع أمراضه النفسيّة والروحيّة والجسديّة. وبهذا، صار زيت المرضى يعني الدواء الروحيّ الذي ينعم به ربّنا على الإنسان المؤمن، فيتوب إلى الله ويتّحد به ليصل معه إلى الملكوت[53].
تُمنح المسحة للمريض الذي يتعرّض لمرضٍ خطير، دون أن يكون ذلك حتمًا في مرحلة النـزاع، وهي رتبة منوطة بالكهنة وحدَهم، وَفقًا لما تنصّ عليه قوانين الشرع الخاصّ[54]؛ ويحتفل فيها بحضور قسم من جماعة المؤمنين، لاسيّما ذويّ المرضى الذين يحتاجون إلى تجديد الرجاء في قلوبهم والتعزية التي تأتي من المسيح الذي يشفي جراح البشر.
5. الزواج
يعبّر هذا السرّ العظيم عن غنى الحياة الزوجيّة التي تتحقّق على صورة رباط المسيح بكنيسته. وعليه، وجب الاهتمام بالمؤمنين الذين يتأهّبون لعقد سرّ الزواج، كي يستعدّوا له الاستعداد اللائق في إطار سرّ الشراكة في المحبّة، ويطّلعوا على مفهوم الزواج ومعناه المسيحيّ، وميزات وحدته وديمومته ويتعرّفوا الواجبات المترتّبة عليهم. من هنا، تعتبر كنسيّةً الزيجات التي تعقد برتبة مقدّسة للبركة، يحتفل بها رئيس كنسيّ أوكاهن يفوّضه ويحضرها إشبينان على الأقلّ؛ فبركة المحتفل تعني أنّه الخادم الحقيقيّ للسرّ بحكم سلطان التقديس الكهنوتيّ[55].
تحتفل الكنيسة المارونيّة، بحسب تقاليدها العريقة، برتبة الخطبة المسمّاة أيضًا “رتبة الخواتم”، وتسبق عادة “رتبة الإكليل” التي فيها يتمّ عقد الزواج. وعليه، يوصي المجمع البطريركيّ المقدّس، تجديد هذا التقليد العريق، الذي يعبّر عن رضى العروسين في رتبة الخطبة، بينما تهدف رتبة الإكليل إلى الولوج مباشرة في كمال الحياة الزوجيّة[56].
6. الصلاة الطقسيّة الخورسيّة
تَجد الصلاة المسيحيّة مصدرها الدائم في الروح القدس الذي يفيض أنهار ماء حيٍّ تنبع من المسيح الممجّد (يو 7/38-39). يتجاوب المؤمن مع هذه النعمة ويدخل في حالة إصغاء لكلام الله والعمل بموجبه. وضعت الصلاة الطقسيّة في الكنيسة لتنعش على الدوام روح اليقظة والعودة إلى الربّ، فتتقدّس منه. والصلاة الطقسيّة تعكس هذا النشيد الذي ترفعه كنيسة الأرض إلى الآب من خلال الكاهن الأوحد يسوع المسيح؛ فمن خلالها تتمّ الشراكة بين الأرض والسماء وفيها يعبّر بوضوح عن مهمة المسيح الكهنوتيّة، وفيها تتجلّى الكنيسة الجماعة في شراكة حميمة مع الثالوث الأقدس. من هنا كانت الصلاة الطقسيّة بحقّ “مدرسة صلاة وإيمان”[57].
وعليه، يوصي المجمع البطريركيّ المقدّس كلّ أبناء الكنيسة، كهنة، رهبانًا وشعبًا بضرورة الاحتفال بالصلوات الطقسيّة جماعيًّا، في كنيسة الرعيّة كما في كنيسة الدير، وفقًا للكتب الطقسيّة وبطريقة خشوعيّة واحتفاليّة. ويشجّع على أن تتقن هذه الصلوات في الكاتدرائيّات التي تشكّل الأنموذج الليتورجيّ لسائر الكنائس في الأبرشيّة. وتأتي صلوات الساعات لتدخل المؤمنين في حالة “الصلاة الدائمة” واللقاء المستمرّ بالمسيح، فتثبّتهم في العبادة الحقّة وتغذّي روحانيتهم وهم في مسيرتهم نحو الملكوت.
7. سائر الرتب والزيّاحات
على المسؤولين الروحيّين أن يبذلوا كلّ ما في وسعهم لتثقيف المؤمنين ثقافة ليتورجيّة ناضجة، وينشئوهم تنشئة أسراريّة حقّة تسمح لهم بأن يتغذّوا روحيًّا من خلال معرفة معاني الاحتفال والمشاركة الفعّالة في الرتب وسائر الطقوس التقويّة الجماعيّة منها والفرديّة، وفي الزيّاحات المختلفة[58]، ويميّزوا، بالتالي، بين ما هو طقسيّ رسميّ وما يسمّى بالليتورجيا الشعبيّة والتي لها أثرها الفاعل في الاختيار الكنسيّ.
وعليه، تشجّع الكنيسة الإحتفالات الجماعيّة، التي تُظهر جليًّا قيمة الصلاة الكنسيّة وفق القواعد الليتورجيّة؛ وعلى اللجنة الليتورجيّة أن تأخذ بعين الاعتبار وجود صلوات تقليديّة ذات طابع رعويّ وشعبيّ وتُصلحها بشكلٍ يتلاءم مع روحيّة الطقوس وحاجات المؤمنين الروحيّة.
الفصل الخامس : الفنّ الكنسيّ والأعياد
1. هندسة الكنيسة المارونيّة
البناء المقدّس علامة ترشدنا إلى سيّد الخليقة، القدّوس وحده الذي جاء وسكن في ما بيننا كي يقودنا إلى الملكوت، أرض ميعادنا الحقيقيّة، في السماء، واعتُبرت الكنيسة – الحجر علامة المذبح السماويّ والهيكل الحقيقيّ في حضرة الله. والبناء المقدّس هذا يعبّر عن العلاقة بين العالمين الأرضيّ والسماويّ؛ لذا ترى الكنيسة من الضرورة الإفساح في المجال أمام الخلق والإبداع في هندسة بنائها إلى جانب الحفاظ على ثوابت التقليد والتراث الكنسيّين.
ولمّا صار المكان مقدّسًا بتجسّد الربّ وموته وقيامته[59]، تحوّل الكون كلّه إلى “بيت لله مقدّسًا”، نعبده فيه بالروح والحقّ (يو 4/23). والكنيسة، جسد المسيح السرّيّ ستختار مكانًا تجتمع فيه لتعبد الله وتمجّده. وحيث تلتقي جماعة المؤمنين تكون الكنيسة؛ وهذا المكان سيأخذ اسمه من اسم الجماعة المجتمعة فيه. وعليه، يجب أن تكون الكنيسة، الهيكل الجديد المبنيّ بالحجارة، على صورة الجماعة المؤمنة التي تبنيها: بيتًا لله عن إيمان شعب الله، ذات هندسة مقدّسة وفنٍّ معماريٍّ خاصٍّ ينبثق من روحانيّة الكنيسة المارونيّة وتقاليدها العريقة وليتورجيّتها الأنطاكيّة السريانيّة[60].
والمذبح هو التعبير الصريح للعبادة المرتبطة بالذبيحة الجديدة على رأس الجلجلة، به يشكر الله على مواهب نلناها، وعليه يتجدّد الاحتفال بعشاء الربّ الأخير، استجابة لوصيّته: “إصنعوا هذا لذكري حتى مجيئي”. فهو كمالُ قبر الربّ، ومجد قيامته، ومصدر كلّ نعمةٍ أسراريّة، وأيقونة المذبح السماويّ حيث يحتفل الملائكة بليتورجيا التقديس السرمديّة، وحيث تقدّم كنيسة الأرض القربان مع الابن نحو الآب. وعليه، تعبّر الكنيسة أصدق تعبير عن تجلّي الله وحضوره في وسطها، لذا يجب أن يكون مكانه صوب الشرق، في هندسة الكنيسة الداخليّة[61] تماشيًا مع المعنى اللاهوتيّ والتقاليد الشرقيّة المشتركة.
2. الثياب الطقسيّة
اللباس الليتورجيّ هو عنصر مهمّ من عناصر الاحتفال الطقسيّ؛ لذا، يوصي المجمع البطريركيّ المقدّس بالسهر على أن يتمتّع هذا اللباس بالنبل والرونق والجمال والبساطة، بعيدًا عن المغالاة، مستلهمًا أصالة اللباس الليتورجيّ في الطقس السريانيّ الأنطاكيّ، ويكون أداة صالحة لتأدية الوظيفة الطقسيّة في الاحتفال الليتورجيّ.
كما يوصي المجمع بضرورة توحيد اللباس، في كلّ طقس وكلّ رتبة أو احتفال. فللحبر لباسه، وللكاهن المحتفل لباسه، وللكاهن المعاون لباسه، وللشمّاس لباسه، وللشدياق والقارئ والمرتّل لباسهم الخاصّ بهم، بحسب درجاتهم. ولكلّ رتبة أو مناسبة لباسها ولونها الخاصّ بها. وعليه، يوصي المجمع بالتقيّد بجميع الإرشادات، التي تصدر عن اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة، بهذا الشأن، ويقرّها مجمع الأساقفة برئاسة غبطة السيّد البطريرك الذي يأمر بتنفيذها[62].
3. الأَيقونات
الأَيقونة المقدّسة قيمةٌ عظيمة، لأنّها تذكّر المؤمنين بعظائم الله وبما حقّقه بواسطة قدّيسيه، ولأنّها تؤوّن مختلف أزمنة التدبير الخلاصيّة. تستحضر الأيقونة وتمثّل الجدّة المسيحيّة المطلقة التي “لم ترها عين، ولا سمعت بها أذن، ولا خطرت على قلب بشر” (1 قور 2/9)، بتقنياتٍ خاصّة وأشكالٍ من وحيّ التراث الحضاريّ الخاصّ وأساليب منسجمة ومتناسقة مع التصاوير المقدّسة، تعبيرًا عن إيمان المؤمنين بالحقائق السماويّة[63].
وعليه، يوصي المجمع المقدّس بضرورة استرداد هذا التراث العريق في كنيستنا، بعيدًا عن التأثيرات الغريبة عن تقاليدنا المارونيّة. ويوصي أيضًا بضرورة العمل على توعية المؤمنين إلى أهميّة تكريم الأيقونات المقدّسة، وعرضها، بترتيب وانسجام مع روحانيّة الكنيسة المارونيّة، في المكان الخاصّ بها في الكنيسة، وفي الاحتفالات التي يجب أن تظهر فيها بتطابق وتناسق مع الاحتفال الطقسيّ[64].
4. الآنية المقدّسة والأدوات المقدّسة
اهتمّت أمّنا الكنيسة وسهرت منذ البدايات على الأثاث المقدّس، واعتنت أشدّ العناية بالآنية المقدّسة والأدوات المقدّسة، وطالبت دائمًا بأن تسهم هذه كلّها، بما لها من لياقة وجمال وفنّ، في نجاح الاحتفالات الليتورجيّة لتمجيد الله[65].
وعليه، يوصي المجمع المقدّس بالسهر الكامل على الأثاث الكنسيّ والآنية المقدّسة واللباس الليتورجيّ، وكلّ ما يمتّ بصلة إلى التحف القديمة والجميلة والعريقة، لئلاّ تتعرّض للتلف أو البيع، بل فليحافظ عليها بعناية فائقة لكونها زينة بيت الله المقدّس[66]؛ ولتخضع كلّها لصلاة البركة بحسب التقليد الليتورجيّ المارونيّ العريق، قبل البدء باستعمالها.
5. الموسيقى الكنسيّة
الموسيقى في الكنيسة هي إرث عريق وكنـز ثمين للغاية؛ منبعه الأوّل هو الكتاب المقدّس والتقاليد الكنسيّة والشعبيّة وما الترتيل إلاّ صلاة الكنيسة المباركة التي لا تَنْفَصل عن الاحتفال الطقسيّ. لذا، توصي الكنيسة بضرورة إتقان التراتيل المقدّسة لتعبّر في المعنى واللحن عن إيمان الكنيسة الوطيد عبر الصلاة المرنّمة بلحنٍ شجيّ، يناغم القلب بالصوت في تسابيح ترتفع إلى الآب بوقار وجلال.
وعليه، يوصي المجمع المقدّس بالحفاظ على قواعد التقليد اللحنيّ المارونيّ المعروف في كلّ صلواته واحتفالاته ورتبه الطقسيّة، على أن يراعى الهدف الأوّل للموسيقى الكنسيّة وهو تمجيد الله وتقديس المؤمنين؛ وتكلَّف، لهذه الغاية، لجنة موسيقيّة خاصّة تنبثق عن اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة، توجّه التأليف الموسيقيّ الكنسيّ وفق مقاييس لحنيّة ولاهوتيّة ثابتة وواضحة، وتسهر على كلّ الأعمال الموسيقيّة الجديدة وتبدي رأيها قبل أن توافق عليها المراجع الكنسيّة المختصّة. وليتمّ الإهتمام بجمع التراث الموسيقيّ المارونيّ وتجديده بما يتلاءم وحاجات المؤمنين في كلّ بقعة انتشروا فيها. ولنشجّع في هذا الإطار، الجوقات في الكاتدرائيّات لتسهم في إشراك جماعة المؤمنين الفعّالة في كلّ احتفال طقسيّ؛ كما يوصي المجمع بأن تعنى الإكليريكيّات وأديرة الرهبان والراهبات بتدريس الموسيقى والألحان الكنسيّة، لاسيّما تراث المزامير الذي يشكل غنى موسيقيًّا مميّزًا[67].
6. الفنّ المقدّس
يعتبر الفنّ المقدّس من أسمى نشاطات العقل البشريّ؛ يهدف إلى التعبير عن الجمال الإلهيّ غير المحدود، وبالتالي، إلى تمجيده وتوجيه المؤمنين إليه ليحمدوه ويشكروه. احتلّت الفنون المقدّسة مكانة مميّزة في الكنيسة المارونيّة لاسيّما في القرون الماضية، وكانت صديقة لها منذ البدايات؛ وما المنمنمات في أناجيلها والتصاوير على جدران كنائسها ومغاور نسّاكها سوى دليل قاطع على اهتمامها بالشأن الفنيّ ببعده اللاهوتيّ والأنتروبولوجيّ.
وعليه، يوصي المجمع البطريركيّ المقدّس، بأن يفعّل عمل لجنة الفنّ المقدّس التابعة للجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة ولجان أخرى فرعيّة تابعة لها على مستوى الأبرشيات، تسند إليها مهمّة التحقّق من أنّ مشاريع بناء الكنائس أو الكاتدرائيّات أو البازيليكات الجديدة وتزيينها من الداخل، وترميم القديمة منها، تتوافق ومعايير التقليد الليتورجيّ المارونيّ العريق ومعانيه. تسعى هذه اللجنة إلى الحفاظ على تراث الفنّ المارونيّ المقدّس وتطويره، من رسم الأيقونات وإنشاء مشاغل لهذا الغرض ترتبط بالأبرشيّات والأديار[68].
7. السنة الطقسيّة والأعياد والأصوام والبطالة
تقوم الليتورجيا ببناء المؤمنين هيكلاً مقدّسًا للربّ ومسكنًا لله في الروح، في ديناميّة الحركة الزمنيّة التي قدّسها الربّ يسوع بتجسّده وفدائه، وكرّسها بالسنين والأشهر والأسابيع والأيّام والساعات. وتتكوّن السنة الطقسيّة لتحتفل بسرّ يسوع المسيح وبكلّ مراحل تدبيره الخلاصيّة إنطلاقًا من سرّه الفصحيّ: موته وقيامته السعيدة. وتتصاعد حركة السنة الطقسيّة المقدّسة بشكلٍ لولبيّ يعبّر عن ارتقاء الجماعة المقدّسة نحو ملكوت الآب، فلا تعود المحطَّات السنويّة تكرارًا فارغًا لأحداث جرت في الماضي بل تصبح مع المسيح دورة تهدف إلى الوصول إلى ملء قامته[69].
والأعياد هي تعبير إيمانيّ تشرح فيه الكنيسة تعلّقها العميق بالمسيح وبتدبيره الخلاصيّ، عبر محطّات دعتها “أعيادًا”، وصنّفتها “سيّديّة” و”مريميّة”، وميّزتها من تذكارات الأنبياء والرسل والشهداء والمعترفين لتكريمهم بعدما غاصوا في محبّة الله، واتّحدوا به، وأصبحوا أمثلة تحتذى، وشفعاء لجماعة المؤمنين؛ فعيّدت لهم وكانت “الروزنامة الطقسيّة”، وكانت الأصوام، وكانت رسوم البطالة[70].
يوصي المجمع البطريركيّ المقدّس في هذا السياق بضرورة الالتزام بما يصدر عن مجمع الأساقفة في شأن السنة الطقسيّة والأعياد والأصوام والبطالة؛ وعليه، فليردّ هذا الطابع إلى “الروزنامة الطقسيّة” وإلى ما كانت عليه في التقليد المارونيّ بفطنة رعويّة، وبإلغاء كلّ العناصر التي لا تتوافق وروح التقليد الشرقيّ الأنطاكيّ السريانيّ المارونيّ[71].
خاتمة
الليتورجيا الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة هي مدرسة إيمان، سكبت فيها الكنيسة لاهوتها واختبرت روحانيّتها وجسّدت قيمها الإلهيّة والإنسانيّة، وفيها عكست مسيرتها الطويلة مع الكتاب المقدّس واللاهوت وآباء الكنيسة. وشكّل الاختبار الليتورجيّ عند الموارنة أهميّة محوريّة، فنمت فيه وتطوّرت الحياة الكنسيّة ببعدها الرعويّ والنسكيّ والإرساليّ والاجتماعيّ والإنسانيّ.
الليتورجيّا المارونيّة هي بحقّ “بيت غازو”، “كنـزًا حيًّا” و”ذخيرة” زيّنت الكنيسة عبر تاريخها بالقدّيسين، أبطال الشهادة والإستشهاد؛ وهي بحقّ ينبوع أروى المؤمنين في مسيرتهم نحو أورشليم السماء.
واليوم، وأمام الحاجات الملحّة والتحدّيات الكثيرة، المطلوب هو ألاّ تفقد هذه الليتورجيّا روحانيّتها وبساطتها وعمقها، حتى تبقى للموارنة وللكنيسة الجامعة الينبوع والغاية، وحتى تسهم في نشر الروحانيّة المسيحيّة في العالم الجديد الذي يحتاج أكثر فأكثر إلى أن يعلن فيه سرّ المسيح المتجسّد والنازل إلى الجحيم ليحوّل الموت فيه إلى قيامة وحياة جديدة.