Franciscus
Jorge Mario Bergoglio
رسائل و اخبار بابوية
رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة الزّمن الأربعيني 2024
مِن البرِّيَّة يقودنا الله إلى الحرّيّة
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
عندما يُظهِر الله لنا نفسه فإنّه يمنحنا الحرّيّة: "أَنا الرَّبُّ إِلٰهُكَ ا لَّذي أَخرَجَكَ مِن أَرضِ مِصرَ، مِن دارِ العُبودِيَّة" )خروج 20 ، 2 (. هكذا تبدأ الوصايا العشر التي أَعطاها الله لموسى على جبل سيناء. ويعرف الشّعب جيّدًا عن أيّ خروج يتكلّم الله: كانت خبرة العبوديّة لا تزال مطبوعة في أجسادهم. تلقى الشّعب الكلمات العشر في البرِّيَّة كطريق إلى الحرّيّة. نحن نسميها ”وصايا“، وهي تؤكّد قوّة المحبّة التي بها يؤدِّبُ الله شعبه. إنّها في الواقع دعوة شديدة إلى الحرّيّة. ولا تكتمل في حدث واحد، بل تنضج في مسيرة. وكما أنّ بني إسرائيل في البرِّيَّة كانوا لا يزالون يحمِلون مصر في داخلهم – إذ ندموا مرارًا على الماضي وتذمّروا على السّماء وعلى موسى - ، كذلك شعب الله اليوم أيضًا يحمل في داخله روابط ظلم كثيرة، وعليه أن يختار ال تّخلّي عنها. نشعر بذلك عندما نفقد الأمل ونتيه في الحياة كما لو كنا في أرض مقفرة، ولا أرض ميعاد نسعى إليها معًا. الزّمن الأربعيني هو زمن النّعمة الذي فيه تصير ال بَرِّيَّة مرّة أخرى – كما قال النّبي هوشع – مكان الحبّ الأوّل )راجع هوشع 2 ، 16 - 17 (. أدَّب الله شعبه ليُخرجه من عبودياته ويعرف ما معنى الانتقال من الموت إلى الحياة. ومثل العريس يشدّنا إليه من جديد، ويهمس في قلوبنا بكلمات حبّه.
الخروج من العبوديّة إلى الحرّيّة ليس مسيرة نظريّة. لكي يكون صومنا نحن أيضًا عمليًّا، الخطوة الأولى هي أن تكون فينا الرّغبة في رؤيّة الواقع. عندما جذب الله موسى إلى العليقة المشتعلة وكلّمه، كشف على الفور عن نفسه أنّه إلهٌ يرى ويسمع بصورة خاصّة: "إِنّي قد رَأَيتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِ صْر، وسَمِعتُ صُراخَه بِسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلامِه، فنَزَلتُ لأُنقِذَه مِن أَيدي المِصرِيِّين وأُصعِدَه مِن هٰذه الأَرضِ إِلى أَرضٍ طَيِّبةٍ واسِعة، إِلى أَرْضٍ تَدُرُّ لَبَنًا حَليبًا وعَسَلًً" )خروج 3 ، 7 – 8 (. واليوم أيضًا، صراخ العديد من الإخوة والأخوات المظلومين يصِل إلى السّماء. لنسأل أنفسنا: هل يصِل إلينا أيضًا؟ هل يهزّنا؟ هل يؤثّر فينا؟ عوامل كثيرة تبعدنا بعضنا عن بعض، وتُنكِرُ الأخوّة التي تربطنا في الأصل.
في رحلتي إلى لامبيدوسا ) Lampedusa) ، وأمام عولمة اللًمبالاة، طرحت سؤالَين ما زالا ينطبقان علينا أيضًا: "أَيْنَ أَنتَ؟" )تكوين 3 ، 9( و"أَينَ أَخوك؟" )تكوين 4 ، 9(. مسيرة الزّمن الأربعيني ستكون عمليّة إن أصغينا إلى السّؤالَين مرّة أخرى، واعترفنا بأنّنا ما زلنا حتّى اليوم تحت سيطرة فرعون. وهي سيطرة تُنهكنا وتجعلنا عديمي الإحساس. إنّها طريقة ال نّمو التي تفرّق بيننا وتسلبنا مستقبلنا. الأرض والهواء والماء تلوّثت بها، وأيضًا تلوّثت بها نفوسنا. في الواقع، على الرّغم مِن أنّ تحرّرنا بدأ بالمعموديّة، ما زال فينا حنين إلى العبوديّة ولا يمكن تفسيره. إنّه مثل افتتان بضمانٍ ماضٍ جربناه، على حساب الحرّيّة.
في قصّة الخروج، أودّ أن أذكر لكم أمرًا وهو بالغ الأهميّة: الله هو الذي يرى، ويتحرّك، ويحرّر، وليس بنو إسرائيل هم الذين سألوه. في الواقع، قتل فرعون الأحلًم أيضًا، وسلب السّ ماء، وجعل العالم الذي تُداس فيه الكرامة، وتُنكَر فيه الرّوابط الحقيقيّة، يبدو غير قابل للتّغيير. نجح في ربط كلّ شيء بنفسه. لنتساءل: هل أريد عالمًا جديدًا؟ هل أنا مستعِدٌّ للخروج من المساومات مع القديم؟ شهادة العديد من الإخوة الأساقفة وعدد كبير من العاملين في مجال السّلًم والعدل تقنعني أكثر فأكثر أنّ ما يجب أن نندِّد به هو فقدان الأمل. هناك من يمنعون الأحلًم، هناك صراخ صامت يصِل إلى السّماء ويحرّك قلب الله. إنّها حالة تشبه الحنين إلى العبوديّة الذي أصاب بني إسرائيل بالشّلل في البرِّيَّة ومنعهم من التّقدّم. الخروج يمكن أن يتوقّف: وإلّا فكيف نفسِّر حالة الإنسانيّة التي وصلت إلى عتبة الأخوّة العالميّة وإلى مستويّات متقدمة في التّطوّر العلميّ والتّقنيّ والثّقافيّ والقانونيّ، والقادرة على ضمان الكرامة للجميع، كيف نفسِّر أنّها ما زالت تتعثَّر في ظلًم عدم المساواة والصّراعات.
الله لا يتعب منّا. لنستقبل الزّمن الأربعيني باعتباره الزّمن القويّ الذي يوجّه الله فيه كلًمه إلينا مرّة أخرى: "أَنا الرَّبُّ إِلٰهُكَ الَّذي أَخرَجَكَ مِن أَرضِ مِصرَ، مِن دارِ العُبودِيَّة" )خروج 20 ، 2 .) إنّه زمن التّوبة، وزمن الحرّيّة. يسوع نفسه، كما نتذكّر كلّ سنة في الأحد الأوّل من الزّمن الأربعيني، دفعه الرّوح القدس إلى البرِّيَّة ليُجرَّبَ في حرّيّته. مدّة أربعين يومًا سيكون أمامنا ومعنا: هو ابن الله المتجسّد. وعلى عكس فرعون، فإنّ الله لا يريدنا أن نكون خاضعين، بل أبناء. البرِّيَّة هي المكان الذي يمكن أن تنضج فيه حرّيتنا فنتَّخذ قرارًا شخصيًّا بألّا نعود مرّة أخرى إلى العبوديّة. في u1575 الزّمن الأربعيني نجد معايير جديدة للحكم وجماعة نسير معها على طريق لمنسلكه قط.
هذا الأمر يقتضي معركة: يقول لنا ذلك بوضوح سِفرُ الخُروج وتجارب يسوع في البرّ يّة. الله يقول: "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب" )مرقس 1 ، 11 ( و"لا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرى تُجاهي" )خروج 20 ، 3 .) وتعارضه أكاذيب العدو. والأصنام هي أشدّ قسوة من الفرعون: إذ يمكننا أن نعتبرها مثل صوته فينا. أن نكون قادرين على كلّ شيء، وأن يَعترف بنا ويقدِّرنا الجميع، وأن نكون أفضل من الجميع: كلّ إنسان يشعر بإغراء هذا الكذب في داخلهِ. إنّه طريق قديم. بهذه الطّريقة يمكننا أن نتعلّق بالمال، وببعض المشاريع، والأفكار، والأهداف، وبمنصب لنا، وبتقليد لنا، وحتّى ببعض الأشخاص. وبذلك، بدل أن نتحرّك، نُصاب بالشّلل. وبدل أن نلتقي، نتعارض. مع ذلك، توجد إنسانيّة جديدة، وهو شعب الصّغار والمتواضعين الذين لم يستسلموا لإغراء الأكاذيب. الأصنام تجعل خدامها بُكمًا، وعُميانًا، وصُمًّا، وجامدين بلً حراك )راجع المزامير 115 ، 5 - 6 (، بينما الفُقراء بالرّوح هم فورًا منفتحون ومستعدّون: إنّهم قوّة الخير الصّامتة التي تعتني بالعالم وتسنده. إنّه زمن العمل، وفي زمن الصّوم الأربعيني العمل هو أيضًا أن نتوقّف، لنصلّي، لنتقبل كلمة الله، ونتوقف مثل السّامري، أمام أخينا الجريح. محبّة الله ومحبّة القريب هي مح بّة واحدة. نقف في حضرة الله ومع قريبنا، يعني أن ليس لنا آلهة أخرى نتوقّف عندها. لهذا، الصّلًة والصّدَقَة والصّوم ليست ثلًثة أعمال منفصلة، بل هي حركة واحدة، انفتاح على الآخر، وتجرُّدٌ ممّا في أنفسنا: لنُخرج الأصنام التي تُثقلنا، ولنُبعد الأمور التي نتعلّق بها وتقيّدنا. إذّاك قَل بُنا الضّامر والمنعزل يستيقظ. لنبطئ الخطى إذًا ولنتوقّف. سمة التّأمّل في الحياة، التي نستعيدها في الزّمن الأربعيني ستحرّك فينا طاقات جديدة. في حضرة الله، نصير إخوة وأخوات، ونشعر بالآخرين بقوّة جديدة: وبدل التّهديدات والأعداء، نجد رفاق سفر. هذا هو حلم الله، وأرض الميعاد التي إليها نتَّجه، عندما نخرج من العبوديّة.
صورة الكنيسة السّينوديّة، التي نعيد اكتشافها وتنميتها في هذه السّنوات الأخيرة، توحي إلينا أنّ زمن الصّوم هو أيضًا وقت لاتّخاذ قرارات جماعيّة، ولخيارات صغيرة وكبيرة عكس ال تّيّار، قادرة على تغيير حياة الأشخاص اليوميّة والحياة في الجوار: العادات في الشِّراء، والعناية بالخليقة، والتّرحيب بالذين لا يراهم النّاس أو يحتقرونهم. أدعو u1603 كلّ جماعة مسيحية إلى أن تقوم بما يلي: أن تقدّم لمؤمنيها وقتًا يعيدون فيه التّفكير في أساليب حياتهم، وأن تتخذ الوقت لتتأكّد من القيام بدورها في المنطقة ومساهمتها في تحسينه. الويل إن كانت التّوبة المسيحيّة مثل التّوبة التي كانت تحزن يسوع. فهو يقول لنا أيضًا: "لا تُعبِّسوا كالمُرائين، فإِنَّهم يُك لّحونَ وُجوهَهُم، لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّهم صائمون" )متّى 6 ، 16 (. بل، ليظهر الفرح على وجوهكم، وليَفُحْ منكم عِطر الحريّة، ولنُطلق السّراح للحبّ الذي يجعل كلّ شيء جديدًا، ولنبدأ بأصغر الأمور وأقربها. كلّ جماعة مسيحيّة يمكن أن تعمل هذا.
بقدر ما سيكون الزّمن الأربعيني هذا زمن توبة، ستشعر البشريّة الضّائعة بفرح الإبداع، وبقوس قزح لرجاءٍ جديد. أودّ أن أقول لكم، كما قلت للشّباب الذين التقيت بهم في لشبونة في الصّيف الماضي: "ابحثوا وجازفوا. في هذا المنعطف التّاريخي، التّحديّات هائلة والأنّات مؤلِمة. إنّنا نَشهَد حربًا عالميّة ثالثة مجزّأة. لكن لنقبل ولنغامر ولنفكّر في أنّنا لسنا في حالة نزاع، بل في حالة مخاض وولادة. ولسنا في النّهاية، بل في بداية مشهد كبير. تَلزمنا الشّجاعة لكي نفكّر هكذا" )كلمة في اللقاء مع الشّباب الجامعيّين، 3 آب/أغسطس 2023 (. إنّها شجاعة التّوبة، والخروج من العبوديّة. الإيمان والمحبّة يمسكان بيد الرّجاء الوليد. يعلّمانه المَشِي، وفي الوقت نفسه، هو يشدّهما إلى الأمام] 1 .] أبارككم جميعًا، وأبارك مسيرتكم في الزّمن الأربعيني. روما، بازيليكا القدّيس يوحنّا في اللًتران، يوم 3 كانون الأوّل/ديسمبر 2023 ، الأحد الأوّل من زمن المجيء.
*******
جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان © 2023
كلمة قداسة البابا فرنسيس عند صلاة الملاك يوم الأحد 21 كانون الثّاني/يناير 2024
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
إنجيل اليوم يروي دعوة التّلاميذ الأوّلين (راجع مرقس 1، 14–20). من الأمور الأولى التي قام بها يسوع في بداية حياته العلنية هي دعوة البعض إلى الانضمام إلى رسالته: اقترب من صَيَّادَين شابَّين ودعاهما إلى أن يتبعاه حتّى "يَجعَلْهُما صَيّادَي بَشَر" (راجع الآية 17). وهذا الأمر يقول لنا شيئًا مهمًّا: الرّبّ يسوع يحبّ أن يُشركنا في عمله الخلاصيّ، ويريدنا أن نكون نشطاء ومسؤولين وعاملين معه. المسيحي غير النّاشط، وغير المسؤول في عمل البشارة، والذي ليس شخصًا عاملًا في إيمانه، ليس مسيحيًّا، أو كما كانت تقول جدتي، هو مسيحي ”بماء الورد“.
إجمالًا، الله لا يحتاج إلينا، لكنّه يريدنا، على الرّغم من أنّ هذا الأمر يتطلّب منه أن يتحمّل حدودنا الكثيرة: جميعنا لنا حدود، بل نحن خطأة، والله يتولى مسؤوليّة ذلك. لننظر مثلًا كَم كان صبر يسوع مع التّلاميذ: لم يفهموا مرارًا كلامه (راجع لوقا 9، 51-56)، وأحيانًا لم يكونوا متّفقين فيما بينهم (راجع مرقس 10، 41)، ومدة وقت طويل لم يستطيعوا أن يقبلوا الجوانب الأساسيّة لكرازته، مثلًا الخدمة (راجع لوقا 22، 27). مع ذلك، اختارهم يسوع وظلَّ يثق بهم. وهذا أمر مهمّ. اختارنا الرّبّ يسوع لنكون مسيحيّين. ونحن خطأة، ونقع في الخطيئة مرارًا، وهو يظَّلُّ يثق بنا. هذا أمر عجيب.
كان تبليغ خلاص الله إلى الجميع سعادة يسوع الكبيرة، ورسالته، ومعنى حياته (راجع يوحنّا 6، 38)، أو كما قال: كان ذلك طعامه (راجع يوحنّا 4، 34). وفي كلّ كلمة وعمل نتَّحد بهما معه، في هذه المغامرة الجميلة التي هي عطاء المحبّة، يزداد النّور والفرح (راجع أشعيا 9، 2): ليس فقط حولنا، بل في داخلنا أيضًا. إذًا، البشارة بالإنجيل ليست مضيعة للوقت: بل تزداد بها سعادتنا بقدر مساعدتنا غيرنا ليكونوا سعداء، وهي تحرير لأنفسنا بمساعدة غيرنا ليكونوا أحرارًا، ونصير نحن أفضل بمساعدة غيرنا ليكونوا أفضل!
لنسأل أنفسنا إذًا: هل أتوقّف بين الحين والآخر لأتذكّر الفرح الذي نَما في داخلي ومن حولي عندما لَبَّيْتُ الدّعوة لأعرف يسوع وأشهد له؟ وعندما أُصلّي، هل أشكر الرّبّ يسوع لأنّه دعاني لكي أجعل الآخرين سعداء؟ أخيرًا: هل أرغب في أن أجعل أحدًا يتذوّق، من خلال شهادتي وفرحي، كم هو جميل أن نحبّ يسوع؟
لتساعدنا مريم العذراء لنتذوّق فرح الإنجيل.
صلاة الملاك
بعد صلاة الملاك
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء!
الأشهر القليلة المقبلة ستقودنا إلى فتح الباب المقدّس، الذي به نبدأ اليوبيل. أطلب منكم أن تكثّفوا صلاتكم لتتهيّؤوا لعيش حدث النّعمة هذا جيّدًا ولتختبروا قوّة رجاء الله، ولهذا نبدأ اليوم سنة الصّلاة، أي السّنة المخصّصة لنكتشف من جديد القيمة الكبرى والحاجة المطلقة للصّلاة في الحياة الشّخصيّة، وفي حياة الكنيسة والعالم. ستساعدنا في ذلك كلّ الوسائل التي ستوّفرها لنا دائرة البشارة بالإنجيل.
في هذه الأيام نصلّي بشكل خاصّ من أجل وَحدة المسيحيّين، ولا نتعب ونحن نبتهل إلى الرّبّ يسوع من أجل السّلام في أوكرانيا وإسرائيل وفلسطين، وفي أنحاء أخرى كثيرة من العالم: أضعف النّاس هم دائمًا الذين يتألّمون حين ينقص شيء ما. أفكّر في الصّغار، والأطفال الكثيرين الذين أصيبوا وقُتلوا، والمحرومين من العطف، والمحرومين من الأحلام والمستقبل. لنشعر بمسؤوليّة الصّلاة وبناء السّلام لهم!
وأتمنّى لكم جميعًا أحدًا مباركًا. ومن فضلكم، لا تنسَوْا أن تصلّوا من أجلي. غداءً هنيئًا وإلى اللقاء!
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة اليوم العالمي الثّامن والخمسين لوسائل التّواصل الاجتماعيّة
الذّكاء الاصطناعيّ وحكمة القلب: للتّواصل البشريّ الكامل
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء!
إنَّ تطوّر أنظمة ما يسمّى ب ”الذّكاء الاصطناعي“، والذي تأمّلت فيه من قبل في الرّ سالة الأخيرة في مناسبة اليوم العالمي للسّلام، أخذ يؤدّي إلى تغيير جذري في الإعلام والاتّصالات، ومن خلالها، في بعض أسس العيش المدنيّ معًا. وهذا التّغيير يؤثّر على الجميع، وليس على المحترفين فقط. الانتشار المتسارع للاختراعات العجيبة، التي لا يمكن لمعظمنا فهمها، كيفتعمل وما هي إمكاناتها، يثير دهشة فينا تتأرجح بين الحماس والارتباك، ويضعنا حتمًا أمامأسئلة أساسيّة: ما هو الإنسان إذًا، وما هي خصوصيته، وما هو مستقبل هذا الجنس الذي يسمّى الإنسان العاقل في عصر الذّكاء الاصطناعيّ؟ وكيف يمكننا أن نبقى بشرًا بصورة كاملة ونوجّهالتّغيير الثّقافي الجاري نحو الخير؟
انطلاقًا من القلب
أوّلًا، يجب تنقية الأرض من القراءات الكارثيّة وآثارها التي تشلّ عن العمل. منذ القرنالماضي، دعانا رومانو جوارديني وهو يتأمّل في التّكنولوجيا والإنسان، إلى ألّا نتصلّب ضد الجديد“ في محاولة "للمحافظة على عالم جميل محكوم عليه بالزوال". ولكنّه في الوقت نفسه،حذّر بطريقة نبويّة صادقة قال: "مكاننا هو في ما يصير. يجب أن نتكيّف معه، كلّ واحد في مكانه )...(، ونلتزم به باستقامة، ولكن نبقى حساسين ونشعر بقلب يرفض الفساد، ويرفض كلّ ما هو مدمّر فيه ولاإنساني. وختم بقوله: "صحيح أنّ هذه القضايا هي تكنولوجيّة وعلميّة
وسياسيّة؛ لكن لا يمكن حلّها إلّا بواسطة الإنسان. يجب أن يتكوّن نوع إنسانيّ جديد فيه روحانيّة أعمق، وحرّيّة وحياة داخليّة جديدة" ] 1 .] في هذا العصر الذي يوشك أن يكون غنيًّا بالتّكنولوجيا وفقيرًا بالإنسانيّة، لا يمكن أن يبدأ تفكيرنا إلّا من قلب الإنسان ] 2[. فقط بقوّة نظرة روحيّة، وفقط باستعادة حكمة القلب، يمكننا أن نقرأ ونفسّر ما هو جديد في عصرنا وأن نكتشف من جديد طريق التّواصل البشري الكامل. القلب،
الذي يُفهم بحسب الكتاب المقدس على أنّه مقر الحرّيّة وأهمّ القرارات في الحياة، هو رمز للاستقامة والوَحدة، ولكنّه يثير أيضًا المشاعر والرّغبات والأحلام، وهو قبل كلّ شيء مكان داخليّ للقاء مع الله. لذلك حكمة القلب هي تلك الفضيلة التي تسمح لنا بأن ننسج مع ا ونجمع بين الكلّ والأجزاء، u1608 والقرارات وعواقبها، والارتفاع والضّعف، والماضي والمستقبل، والأنا ونحن.
حكمة القلب هذه يمكن أن يجدها الذين يبحثون عنها ويمكن أن يراها الذين يحبّونها. تسبق الذين
يرغبون فيها، وتبحث عن الذين يستحقونها )راجع الحكمة 6 ، 12 - 16 (. إنّها مع الذين يقبلون النّصائح )را. أمثال 13 ، 10 (، ومع الذين لهم قلب مطيع، وقلب يُصغي )را. 1 ملوك 3 ، 9 .) وهي عطيّة الرّوح القدس التي تسمح لنا بأن نرى الأشياء بعينَي الله، وبأن نفهم الرّوابط والمواقف والأحداث، وبأن نكتشف معناها. بدون هذه الحكمة، الحياة تصير بلا طعم، لأنّ الحكمة على وجه التّحديد حيث المعنى في أصلها اللاتيني هو ”تذوّق“ ) – sapere) ويشترك مع معنى ”النّكهة“ ) sapore) - هي التي تعطي طعمًا للحياة.
الفرصة والخطر
لا يمكننا أن نطلب هذه الحكمة من الآلات. على الرّغم من أنّ مصطلح الذّكاء الاصطناعيّ قد حلّ الآن محل المصطلح الأكثر قبولًا والمستخدم في الأدبيات العلميّة، وهو ال تّع لّم الآلي، فإنّ استخدام كلمة ”الذّكاء“ في حدّ ذاتها أمر مضلّل. بالتّأكيد الآلات تتمتع بقدرة هائلة أكبر من قدرة
البشر على حفظ البيانات وربطها بعضها مع بعض، ولكن الأمر متروك للإنسان، وفقط له لفك تشفير المعنى. وبالتّالي ليس الأمر هو مطالبة الآلات بأن تبدو مثل البشر. بل بالأحرى بإيقاظ الإنسان من التّنويم المغناطيسيّ الذي يقع فيه بسبب هذيان القدرة المطلقة، وهو يعتقد بأ نّه ذات
مستقلة تمامًا وهو المرجعيّة لذاته، منفصلًا عن كلّ رابط اجتماعيّ، وينسى أ نّه مخلوق. في الواقع، اختبر الإنسان دائمًا بأنّه لا يكفي نفسه، وحاول أن يتغلّب على ضعفه بكلّ الوسائل. بدءًا بالمصنوعات اليدويّة في عصور ما قبل التّاريخ، والتي استُخدمت كامتداد للذراع، ووصولًا إلى وسائل الإعلام المستخدمة كامتداد للكلمة، وقد وصلنا اليوم إلى أحدث الآلات التي تعمل كمساعدة للفكر. ومع ذلك، كلّ واحدة من هذه الأمور يمكن أن تتلّوث بالتّجربة الأصليّة، أي الإنسان الذي يريد أن يصير مثل الله وبدون الله )راجع تكوين 3 (، أي إنّه يريد الاستملاك بقوّته الخاصّة لما يجب أن يكون، بدلَ ذلك، عطيّةً نقبلها من الله، ثمّ نعيشها في علاقاتنا مع الآخرين. وبحسب توجّه القلب، كلّ شيء في يدِ الإنسان يصير فرصة أو خطرًا. جسده، الذي خُ لِقَ ليكون مكانًا للتواصل والشّركة مع الآخرين، يمكن أن يصير وسيلة للعدوان. وبنفس الطّ ريقة، فإنّ كلّ امتداد تقني للإنسان يمكن أن يكون أداة لخدمة المحبّة أو للسيطرة العدائيّة. أنظمة u1575 الذّكاء الاصطناعيّ يمكن أن تساهم في عمليّة التّحرّر من الجهل وتسهيل تبادل المعلومات بين مختلف الشّعوب والأجيال. مثلًا، يمكنهم جعل إرث هائل من المعرفة المكتوبة في العصور الماضيّة في متناول الجميع وأن يكون فهمها ممكنًا أو جعل النّاس يتواصلون بلغات غير معروفة لهم. ولكن في الوقت نفسه يمكن أن تكون أدوات ”تلوّث معرفي“، وتحريف الواقع من خلال روايات كاذبة جزئيًا أو كليًّا ومع ذلك يتمّ تصديقها ومشاركتها كما لو كانت حقيقيّة. يكفي أن نفكّر في - -مشكلة المعلومات المضلّلة التي نواجِهها منذ سنوات في مسألة الأخبار المزيّفة ] 3 [ والتي تستخدم اليوم التّزييف العميق، أي إنشاء ونشر الصّور التي تبدو معقولة تمامًا ولكنّها كاذبة وحدث لي أيضًا بأن أكون موضوعًا لها(، أو رسائل صوتيّة تستخدم صوت الشّخص وهو يقول أشياء لم يقلها قط. أسلوب التّمويه الذي هو أساس هذه البرامج يمكن أن يكون مفيدًا في بعض المجالات المحدّدة، ولكنّه يصير فاسدًا حيث يشوّه العلاقة مع الآخرين والواقع.
من الموجة الأولى للذّكاء الاصطناعيّ، أي موجة وسائل التّواصل الاجتماعيّ، رأينا التّناقض الذي لمسناه لمس اليَد، إلى جانب الفرص، والمخاطر أيضًا والأمراض. ونجد، في المستوى الثّاني للذّكاء الاصطناعيّ والمُوَلِّد، نقلة نوعيّة غير قابلة للنّقاش. لذلك، من المهمّ أن يكون لدينا
الإمكانيّة لأن نُدرك ونفهم وننظّم الأدوات التي إن كانت في الأيدي المغلوطة، يمكنها أن تفتح سيناريوهات سلبيّة. الخوارزميّات ليست مُحايدة، مثلها مثل كلّ شيء آخر يخرج من عقل الإنسان ومن يديه. لذلك، من الضّروري أن نتخذ الإجراءات الوقاية اللازمة، وأن نقترح نماذج للتنظيم الأخلاقيّ، لكي نُوقف الآثار الضّارّة والتّمييزيّة وغير العادلة اجتماعيًّا، لأنظمة الذّكاء الاصطناعيّ، ولكي نقاوم استخدامها في الحدّ من التّعدّديّة، واستقطاب الرّأي العامّ أو في بناء فِكرٍ نمطيّ واحد. أجدّد إذًا ندائي وأدعوا "هيئة الأمم إلى أن تعمل معًا لتبنّي معاهدة دوليّة ملزمة، تنظِّم تطوير واستخدام الذّكاء الاصطناعيّ بأشكاله المتعدّدة"] 4[. مع ذلك، فإنَّ التّنظيم لا يكفي، كما هو الحال في كلّ مجال بشريّ.
ننمو في الإنسانيّة
نحن مدعوّون إلى أن ننمو معًا، في الإنسانيّة وبطريقة إنسان يّة. التّحدي أمامنا هو أن نقوم بقفزة نوعيّة حتّى نكون على مستوى مجتمع معقّد، ومتعدّد الأعراق، وفيه تعدّديّة، وهو متعدّد الأديان ومتعدّد الثّقافات. وعلينا u1578 تقع المسؤوليّة لطرح الأسئلة حول التّطوّر النّظري والاستخدام العمليّ لأدوات الاتّصال والمعرفة الجديدة هذه. الإمكانيّات الكبيرة للخير ترافق خطر تحوّل كلّ شيء إلى حسابات مجرّدة، فيتحوّل الأشخاص إلى بيانات، والفِكر إلى مخطّطات مرسومة، والتّجربة تصير هي الواقع، والخير يصير الرِبح، وأهمّ من كلّ شيء، ينتهي بنا الأمر إلى إنكار فرادة كلّ شخص وتاريخه، إذ نُذيب حقيقة الواقع في سلسلة من البيانات الإحصائيّة. يمكن للثّورة الرّقميّة أن تزيد حريتنا، لكن على ألّا تسجننا في النّماذج المعروفة اليوم باسم غرفة الصّدى“. في هذه الحالات، بدل أن تزداد تعدّديّة المعلومات، نُجازف بأن نجد أنفسنا تائهين في مستنقع مجهول، مؤيّد لمصالح السّوق أو السُّلطة. من غير المقبول أن يؤدّي استخدام الذّكاء الاصطناعيّ إلى تفكير مبهم لا معالم له، وإلى تجميع بيانات غير مُعتمدة، وإلى انعدام المسؤوليّة في تحرير جماعي. تمثيل الواقع في ”البيانات الضّخمة“، على الرّغم من أنّه عمليّ لإدارة الآلات، يسبّب في الواقع خسارة مهمّة لحقيقة الأشياء، ويعيق التّواصل بين الأشخاص ويوشك أن يلحق الضّرر بإنسانيّتنا نفسها. لا يمكن أن نفصل المعلومات عن العلاقة في الحياة: فهي تشمل الجسد، ووجودنا في الواقع، وتطلب الاتّصال ليس فقط بالبيانات، بل بالخبرات أيضًا، وتحتاج إلى الوجه وال نّظرة والرّأفة والمشاركة. أفكّر في رواية الحروب ورواية ”الحرب الموازية“ التي تُشنّ في حملات التّضليل. وأفكّ ر في عدد الصّحفيّين الذين أصيبوا أو ماتوا في الميدان، حتّى نتمكّن نحن من رؤية ما رأته عيونهم. لأنّه فقط إن لمسنا لمسَ اليَد ألَم الأطفال والنّساء والرّ جال، يمكننا أن نفهم عبثيّة الحروب.
يمكن أن يُساهم استخدام الذّكاء الاصطناعيّ بشكل إيجابيّ في مجال الاتّصال، إن لم يُلغِ دور الصّحافة في الميدان، بل على العكس إن رافقها، وإن ثَمَّنَ كفاءة التّواصل المهن يّة، وجعل كلّ عاملِ اتّصالات مسؤولًا، وإن أعاد لكلّ إنسان دور الشّخص القادر على نقد ال تّواصل نفسه.
أسئلة لليوم وللغد
تُطرَح بعض الأسئلة بصورة تلقائية: كيف نحمي الكفاءة المهنيّة والكرامة للعاملين في مجال الاتّصالات والمعلومات، والذين يستخدمون معلوماتهم في جميع أنحاء العالم؟ كيف نضمن التّعاون في العمل في المنصّات؟ كيف نتأكّد من أنّ الشّركات التي تقوم بتطوير المنصّات
الرّقميّة تتحمل مسؤوليّاتها فيما يتعلّق بما تنشره وتستفيد منه، أُسوة بما يحدث لناشِري وسائل التّواصل التّقليديّين؟ كيف نزيد شفافية المعايير في خوارزميّات الفهرسة وإلغاء الفهرسة ومحرّكات البحث، والتي تقدر أن ترفع أو تلغي أشخاصًا وآراءً وقصصًا وثقافات؟ كيف نضمن
شفافيّة الإجراءات المعلوماتيّة؟ كيف نجعل كاتبي الكتابات معروفين وكيف يمكن تتبّع المصادر، ونمنع حاجز عدم الكشف عن الأسماء؟ كيف نعرف إن كانت هذه صورة أو الفيديو واقعًا حقيقيًّا أم هما تمثيل؟ كيف نتجنّب حصر المصادر في مصدرٍ واحدٍ فقط، وفي فكرٍ واحدٍ تمَّ صنعه خوارزميًّا؟ وبالمقابل، كيف نعزّز وندعم بيئة مناسبة قادرة على المُ حافظة على التّعدّديّة وتُمثّل تعقيدات الواقع؟ كيف نجعل هذه الأداة القديرة والمُكلفة والمُ ستهلكة للطّاقة بشكل كبير، أداة مُستدامة؟ وكيف يمكننا أن نجعلها في متناول البلدان النّامية أيضً ا؟
من خلال إجاباتنا على هذه الأسئلة وعلى غيرها، سنفهم هل يؤدّي الذّكاء الاصطناعيّ إلى خلق طبقات جديدة مؤسّسة على السّيطرة الإعلاميّة، ويولّد أشكالًا جديدة من الاستغلال وعدم المساواة، أم، عكس ذلك، سيجلب مزيدًا من المساواة، ويعزّز ويدعم إعلامًا صحيحً ا ووعيًا أشدّ للمرحلة الانتقاليّة التي نجتازها، ويشجّع الإصغاء إلى الاحتياجات المتعدّدة للنّاس والشّعوب، في نظام معلومات واضح وتعدّدي. من جهة، يلوح في الأفق شبح عبوديّة جديدة، ومن جهة أخرى، افتتاح مجالات للحرّيّة. من جهة، مقدرة عدد قليل للتأثير على فكر الجميع، ومن جهة أخرى، مقدرة الجميع على المشاركة في صياغة الفكر. الجواب ليس مكتوبًا، بل يعتمد علينا. على الإنسان أن يقرّر إمّا أن يصير طعامً ا للخوارزم يّات أو أن يغذّي قلبه بالحرّيّة، التي من دونها لا يمكنه أن ينمو في الحكمة. هذه الحكمة تنضج بتقدير الوقت ومعانقة كلّ نقاط الضّعف. تنمو في التّضامن بين الأجيال، وبين الذين يتذكّرون الماضيّ والذين لديهم رؤية للمستقبل. معًا فقط تنمو القدرة على التّمييز وعلى السّهر، وعلى النّظر إلى
الأمور بدءًا من اكتمالها. حتّى لا نفقد إنسانيّتنا، لنطلب من جديد الحكمة التي هي قبل كلّ شيء
)راجع سيراخ 1 ، 4 (، والتي تمرّ عبر القلوب النّقيّة وتهيّئ أصدقاء الله والأنبياء )راجع سفر الحكمة 7 ، 27 (: ستساعدنا أيضًا لنضع جنبًا إلى جنب أنظمة الذّكاء الاصطناعيّ مع تواصل بشري كامل.
روما، بازيليكا القدّيس يوحنّا في اللاتران، 24 كانون الثّاني/يناير 2024 .
***********
جميع الحقوق محفوظة حاضرة الفاتيكان – © 2024[ 1 [ رسائل من بحيرة كومو، بريشيا 2022 ، 95 - 97 .
رسالة قداسة البابا فرنسيس في مناسبة اليوم العالمي الثّاني والثّلاثين للمريض
"لا يَحسُنُ أَن يَكونَ الإِنسانُ وَحدَه"
الاعتناء بالمريض بالاعتناء بالعَلاقات
"لا يَحسُنُ أَن يَكونَ الإِنسانُ وَحدَه" )تكوين 2 ، 18 (. منذ البدء، الله الذي هو محبّة خلق الإنسان ليكون في شركة واتّحاد مع غيره. ووضع في كيانه أن يكون عَلاقة مع. وهكذا، فإنّ حياتنا، التي صاغها الله على صورة الثّالوث الأقدس، مدعوةٌ إلى أن تح قّق نفسها كاملة في ديناميكيّة العَلاقات والصّداقة والحبّ المتبادل. خلقنا لنكون مع ا، لا وحدنا. ولأنّ مشروع الشّركة والوَحدة هذا محفور بعمق في قلب الإنسان، فإنّ خبرة الخذلان والوِحدة تخيفنا وهي مؤلمة، بل هي غير إنسانيّة. وتصير أكثر خطورة في أوقات الضّعف والتّردّد وانعدام الأمن، وهذا يحدث مرا را عند الإصابة بأيّ مرض خطير. أفكّر، مث لا، في الذين كانوا وحيدين جدًّا خلال جائحة كوفيد- 19 : المرضى الذين لم يتمكّنوا من استقبال الزّوار، وأي ضا الممرضين والأطباء وموظفين آخرين داعمين، جميعهم كانوا مثقلين بالعمل ومغلق ا عليهم في أجنحة العزل. وبالطّبع لا ننسى عدد الأشخاص الذين اضطروا إلى أن يواجهوا ساعة الموت وحدهم، بمساعدة العاملين في مجال الصّحّة، ولكن بعي دا عن عائلاتهم. وفي الوقت نفسه، أشارك بألَم في حالات الألَم والوِحدة التي يوجد فيها البعض اليوم، بسبب الحرب وعواقبها المأساويّة، بلا سند ولا مساعدة: الحرب هي أشدّ الأمراض الاجتماعيّة، والذين يدفعون الثّمن الغالي فيها هم الأضعفون.
ومع ذلك، من الضّروري أن نؤكّد أنّه حتّى في البلدان التي تتمّتع بالسّلام وبموارد وافرة، فيها أي ضا وقت الشّيخوخة والمرض محاط بالعزلة، وأحيان ا بالخذلان. هذا الواقع المحزن هو قبل كلّ شيء نتيجة لثقافة الفرديّة، التي تهتمّ أوّ لا بالمكسب مهما كان الثّمن، وبأسطورة الفعّالية والإنتاج، فتصير غير مبالية، بل بلا رحمة، عندما لا يعود لدى النّاس القوّة اللازمة للإنتاج. ومن ثمّ تصير ثقافةالإقصاء والرّفض، حيث "الأشخاص لا يُعتبرون بعد قيمة أساسيّة ينبغي احترامها وحمايتها، لا سيّما إن كانوا فقراء أو ذوي احتياجات خاصّة، أو ”لا يقدرون بعد أن يعملوا“ – كالأطفال الذين لم يولدوا بعد– أو”لا فائدة منهم“ – كالكبار المتقدّمين في السّن" )رسالة بابوية عامة، كلّنا إخوة، 18 .)
للأسف، هذا المنطق يتغلغل أي ضا في بعض الخيارات السّياسيّة، التي تفشل في وضع كرامة الإنسان واحتياجاته في المقام الأوّل، ولا يضعون دائ ما الاستراتيجيات والموارد اللازمة لضمان الحقّ الأساسي لكلّ إنسان في الصّحّة والحصول على العلاج. في الوقت نفسه، التّخلّي عن الضّعفاء ووِحدتهم تزداد مع تقليص الرّعاية إلى الخدمات الصّحيّة فقط، دون أن تكون مصحوبة بحكمة بكلّ ما يلزم من التّرابط في مجال العلاج، بين الطّبيب والمريض وأفراد العائلة. حَسَنٌ لنا أن نسمع من جديد كلمة الكتاب المقدس: لا يَحسُنُ أَن يَكونَ الإِ نسانُ وَحدَه! قالها الله في بداية الخلق، وبها كشف لنا عن المعنى العميق لخطته للبشريّة، وفي الوقت نفسه، بيَّن لنا جُرح الخطيئة المميت، الذي يدخل فيولّد الشّكوك والانشقاقات والانقسامات، والعزلة أي ضا. فهي تؤثّر في الإنسان في جميع علاقاته: مع الله، ومع نفسه، ومع الآخرين، ومع الخليقة. هذه العزلة تجعلنا نفقد معنى الحياة، وتسلبنا فرح الحبّ وتجعلنا نختبر شعو را خانق ا بالوِحدة في جميع مراحل الحياة الحاسمة.
أيّها الإخوة والأخوات، العلاج الأوّل الذي نحتاج إليه في مرضنا هو القرب المليء بالرّأفة والحنان. لهذا السّبب، أن نعتني بالمريض يعني قبل كلّ شيء أن نعتني بعلاقاته، بكلّ علاقاته: مع الله، ومع الآخرين - الأقارب والأصدقاء والعاملين الصّحّيّين – ومع الخليقة، ومع نفسه. هل هذا الأمر ممكن؟ نعم ممكن، ونحن كلّنا مدعوّون إلى أن نلتزم حتّى يتحقّق ذلك. لننظر إلى أيقونة السّامري الرّحيم )راجع لوقا 10 ، 25 - 37 (، وإلى قدرته على أن يتوقَّف ويكون قريب ا، وإلى الحنان الذي به خفَّف جراح أخيه المتألّم. لنتذكّر هذه الحقيقة الأساسيّة في حياتنا: أَتَينَا إلى العالم لأنّ أح دا ما استقبلنا، وخُلِقنا من أجل المحبّة، ودُعينا إلى الشّركة والوَحدة وإلى الأخوّة. هذا البُعد في كياننا يسندنا خاصّة في أوقات مرضنا وضعفنا، وهو العلاج الأوّل الذي علينا أن نعتمده مع ا كلّنا لكي نشفي أمراض المجتمع الذي نعيش فيه. وأودُّ أن أقول لكم، أنتم الذين تعيشون مع المرض، سَواء كان عاب را أم مُزمن ا: لا تَخجلوا من رغبتكم في القُرب والحنان! لا تُخفوها ولا تفكّروا أب دا في أنّكم عِبءٌ على الآخرين. حالة المرضى تدعونا كلّنا إلى أن نُبطئ الإيقاعات المسرعة التي تغمرنا وإلى أن نكتشف
أنفسنا من جديد.
في عصر التغيّرات هذا الذي نعيش فيه، نحن المسيحيّين بشكلٍ خاصّ، مدعوّون إلى أن نتخذ نظرة يسوع الرّؤوفة. لنعتنِ بمن يتألّم وهو وحده، وقد يكون مهمّ شا ومنبوذ ا. لنشفِ جِرَاح الوِحدَة والعُزلَة بالحبّ المُتبادل الذي منحنا إيّاه يسوع المسيح في الصّلاة، وخاصّة في الإفخارستيّا. وهكذا نتعاون لكي نقاوم ثقافة الفرديّة واللامبالاة والإقصاء، ولكي ننمّي
ثقافة الحنان والرّأفة.
المرضى والضّعفاء والفقراء هُم في قلب الكنيسة ويجب أن يكونوا أي ضا في قلب مشاعرنا البشريّة واهتمامنا الرّعويّ. لا ننسَ ذلك! ولنُوكل أنفسنا إلى س يّدتنا مريم الكاملة القداسة، وشِفَاء المرضى، لتشفع بنا وتساعدنا لنكون صانعي قُرب وعلاقات أخويّة. روما، بازيليكا القدّيس يوحنّا في اللاتران، يوم 10 كانون الثّاني/يناير 2024 .
*******
جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان © 2024